الأحد 18 / ذو الحجة / 1446 - 15 / يونيو 2025
وَلَا تَقْعُدُوا۟ بِكُلِّ صِرَٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَٱذْكُرُوٓا۟ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى إخباراً عن شعيبٍ الذي يقال له خطيب الأنبياء؛ لفصاحة عبارته وجزالة موعظته: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ۝ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [سورة الأعراف:86-87].
ينهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] أي: تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم.
قال السدي وغيره: كانوا عشَّارين.

القطع الحسي معناه أنهم يقعدون في طريق الناس ويقطعون عليهم الطريق كقُطَّاع الطرق، ومن ذلك أخذهم المكوس من الناس.
قوله: "كانوا عشَّارين" يعني يأخذون العشر من أموال الناس الذين يجتازون تلك الناحية، وهذا كان يفعله أهل الجاهلية أيضاً، والنبي ﷺ قال في المرأة التي زنت: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس..[1] فالمكوس بهذه المنزلة من الإثم.
يقول الحافظ - رحمه الله - : "أي تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم" وهذا صنيع قطاع الطرق، وأما قطع الطريق المعنوي فهو قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] أي أنهم يصدون الناس عن دين الله ويحذرونهم من الإيمان بشعيب ولهذا قال: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًاَ [سورة الأعراف:86] أي: تريدون أن تكون الطريق مائلة عن الحق تابعة لأهوائكم وشهواتكم، هكذا كانوا يقطعون على الناس الطريق بهذا أو بهذا أو بالأمرين معاً.
وعن ابن عباس - ا - ومجاهد وغير واحد: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [سورة الأعراف:86] أي: تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه، والأول أظهر؛ لأنه قال: بِكُلِّ صِرَاطٍ  وهو الطريق، وهذا الثاني هو قوله: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [سورة الأعراف:86].

في أول الكلام جمع الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بين المعنيين حيث قال: "ينهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي والمعنوي" لكن قال هذا الكلام باعتبار الجملتين من قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأعراف:86] وإن كان قد حمل بعض أهل العلم قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ على الصراط المعنوي أي صرف الناس عن دين الله فالآية تحتمل هذا، لكن الحافظ ابن كثير قال في أول كلامه: "ينهاهم عن قطع الطريق الحسي والمعنوي" ولا يقصد بهذا أن الجملة الأولى هي التي تحمل على المعنيين؛ لأن كلامه في النهاية واضح في الترجيح حيث قال: "فنهاهم عن قطع الطريق الحسي بقوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ[سورة الأعراف:86] والطريق المعنوي بقوله: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ [سورة الأعراف:86]" وهذا أحسن، والله تعالى أعلم؛ لئلا تكون الجملة الثانية من قبيل التكرار؛ لأن قطع الطريق المعنوي إذا كان مضمناً في الجملة الأولى فما معنى الجملة الثانية: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ؟ [سورة الأعراف:86]
من هنا كان الأحسن أن تحمل الأولى على قطع الطريق الحسي بأخذ المكوس أو سلب أموال الناس بالقوة، والجملة الثانية معناها قطع الطريق المعنوي، والله أعلم.
وهذا الثاني هو قوله: وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [سورة الأعراف:86] أي: وتودون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة.

هذه الآية هي كقول الله : وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا [سورة النساء:27]، وبعض أهل اللغة – كالزجَّاج - يقول: إنّ "عِوَج" - بالكسر - يكون في المعاني و"عَوَج" - بالفتح - يكون في الأمور المحسوسة، هكذا فرَّق بعض أهل اللغة بين المكسور والمفتوح.
وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [سورة الأعراف:86] أي: كنتم مستضعفين لقلتكم، فصرتم أعزَّة لكثرة عددكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك.
وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:86] أي: من الأمم الخالية والقرون الماضية، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.
  1. أخرجه مسلم في كتاب الحدود - باب من اعترف على نفسه بالزنا (1695) (ج 3 / ص 1321).

مرات الإستماع: 0

"وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: 86] قيل: هو نهي عن السلب، وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم، وقيل: كانوا يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباع شعيبٍ، ويوعدونهم إن اتبعوه".

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: 86] يعني: تتوعدون، وتُخوِّفون الناس، يعني بالتهديد، يقول: "نهي عن السلب، وقطع الطريق، وكان من فعلهم" قيل: يهددون الناس بالقتل، والأذى إن لم يعطوهم أموالهم، وبعضهم يقول: كانوا مكَّاسين.

وهذا المعنى، وهو أنهم يهددونهم بالأذى، والقتل إن لم يعطوهم أموالهم: هو الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[1].

يقول: "وقيل: كانوا يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباع شعيبٍ أو الوصول إليه" يتوعدونهم على ذلك، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، ومجاهد[2] واختاره أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[3].

وبعض أهل العلم حمل الآية على المعنيين: كالواحدي[4] باعتبار أن ذلك جميعًا كان من أفعالهم، فكانوا يصدون عن نبيهم - عليه الصلاة، والسلام - وكانوا أيضًا يأخذون أموال الناس، ويتوعدونهم، ويتهددونهم، ويُخوِّفونهم إن لم يعطوهم هذه الأموال.

"قوله تعالى: وَتَصُدُّونَ [الأعراف: 86] أي: تمنعون الناس من سبيل الله، وهو الإيمان، والضمير في (به) للصراط، أو لله".

وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ [الأعراف: 86] الضمير في (به) يرجع إلى أقرب مذكور، ما هو أقرب مذكور؟ اسم الجلالة الله، لكن هنا عندنا مضاف، ومضاف إليه وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ والأصل أن يكون مرجع الضمير إلى المضاف، وليس إلى المضاف إليه؛ ولهذا قال بعضهم هنا بأن ذلك يرجع إلى الصراط، وهو السبيل وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ هذا هو الصراط، عن صراطه، وعن طريقه، هم يعلمون أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، لكن قالوا: بأن الأصل أن يرجع إلى المضاف، وليس إلى المضاف إليه؛ لأنه المحدَّث عنه، الذي هو المضاف، لكن بين المعنيين ملازمة، فإذا كانوا يصدون عن سبيل الله، وعن صراطه، فهم لا شك يصدون عن الله - تبارك، وتعالى - وإذا كانوا يصدون عن الله فهم صادُّون عن سبيله، فلا يُحتاج إلى الترجيح، لكن من ناحية الصناعة اللغوية، هي هذه القاعدة الذي ذكرتها: بأن الأصل الرجوع إلى المضاف، أو المحدَّث عنه - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف: 86] ذُكِر في آل عمران".

والمعنى: تودون أن تكون سبيل الله معوجة، وتلتمسون لها الزيغ، إما بإلقاء الشبهات، أو بالأوصاف التي تصفونها بها، مما ينفر الناس عنها، أو فيما تفعلونه من إمالتها، بحسب أهواكم؛ لتكون تابعةً لها، موافقةً لشهواتكم، فيريدونها عوجاء على غير استقامة تبعًا لأهوائهم، أو بتشويهها بالأوصاف القبيحة، أو بإلقاء الشبهات التي تصد الناس عن لزومها - والله أعلم -. 

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/447).
  2. تفسير مجاهد (ص: 339).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/558).
  4. الوجيز للواحدي (ص: 402).