الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
تَدْعُوا۟ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ۝ وَجَمَعَ فَأَوْعَى أي: تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلْق ذَلْق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب، وذلك أنهم كما قال الله : "كانوا ممن: أَدْبَرَ وَتَوَلَّى أي كذب بقلبه، وترك العمل بجوارحه وَجَمَعَ فَأَوْعَى أي جمع المال بعضه على بعض فأوعاه أي أوْكاه، ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات، ومن إخراج الزكاة، وقد ورد في الحديث: لا تُوعِي فيُوعِيَ الله عليكِ[1]".

قوله - تبارك وتعالى -: تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ۝ وَجَمَعَ فَأَوْعَى هذه النار تدعو، كما أخبر الله عنها أنها ترى: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12] فهي تتغيظ عليهم، تكون في غاية الغيظ على هؤلاء الكفار فهي ترى، وتتغيظ، وكذلك: تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ۝ وَجَمَعَ فَأَوْعَى أعرض عن الحق، وتولى عنه، وجمع المال فأوعى، لم يَخرج من يده شيء، لم يُخرج حق الله منه، جمع فأوعى، هذا معنى: أوعى، أوعاه يعني أوكاه، منع الحق الواجب لله، ولخلقه.

وبعضهم فسر قوله - تبارك وتعالى -: تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى بعضهم قال: يعني تُهلك، تقول العرب: دعاك الله أي: أهلكك تَدْعُو أي تُهلك، وبعضهم قال: المراد أنها تتمكن، يعني تصوير تمكن النار من عذابهم، وقيل: إن الذين يدعون هم خزنتها.

كل هذا صرف للفظ عن ظاهره باعتبار أن النار لا إدراك لها، لكن الله يقول: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ فهي ترى، فهنا أخبر، وأخبر هناك أنهم: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، والنبي ﷺ أخبر عن النار بقوله: لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد[2]، والله قد ذكر هذا في كتابه: وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ [ق: 30] فأضاف القول إليها: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ ولا يقال: إن القائل هنا هم الخزنة، فالأصل حمل الكلام على ظاهره تقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط، قط[3]، وكذلك لما: اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف[4]، وكذلك: احتجت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون، والمتكبرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء، والمساكين، فقال الله لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء - وربما قال: أصيب بك من أشاء -، وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها[5]، فالنار تشتكي، وتتكلم.

وكذلك ما جاء من الاستجارة من عذاب النار، وسؤال الجنة، الذي يقول: اللهم أجرني من النار في بعض ألفاظه ثلاثًا، وفي بعضها سبعًا، وكذلك يسأل الجنة، تقول النار: اللهم أجره مني[6] أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -، فهذا كله على ظاهره - والله أعلم -.

  1. جزء من حديث رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما استطاع، رقم (1434)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء، رقم (1029).
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله - تعالى -: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم: 4] سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المنافقون: 8]، ومن حلف بعزة الله وصفاته، رقم (7384).
  3. المصدر السابق.
  4. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (537)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (615، 617).
  5. رواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم (2846).
  6. رواه أحمد، رقم (12170)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، رقم (5079)، والنسائي في السنن الكبرى، كِتَابُ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَوْنُكَ يَا رَبِّ عَلَى مَا بَقِيَ، ثَوَابُ مَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، رقم (9859)، وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن".