"وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله - تعالى - فيها، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: شر ما في رجل: شحٌّ هالعٌ، وجبنٌ خالعٌ ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح عن أبي عبد الرحمن المقرئ به، وليس لعبد العزيز عنده سواه[1]".
ابن جرير - رحمه الله - فسر الهلع بشدة الجزع مع شدة الحرص، والضجر، هذا تفسير له لا يعارض قول من قال: إنه مفسر بما بعده، بمعنى أن الله ذكر أبرز خصال هذا الإنسان الهلوع.
وهؤلاء فسروه في أصل معناه يقول: إذا حصل له، إذا مسه الضر فزع، وجزع، وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيسَ أن يحصل له بعد ذلك خير؛ هذا الهلوع، هذا الإنسان إذا قل توكله على الله ، وقل يقينه؛ فإنه يقل صبره، وشكره؛ في حالتيه، فيصير هذا الإنسان في حال من الاضطراب، والقلق الدائم، والضعف أمام ما يعرض له من السراء، والضراء، فيكون بين جزع وبطر، ويكون بين ضعف وانكسار تارة، ومنع للحقوق، وحرص على هذا الحطام تارة أخرى، ينسى سريعًا، إذا حصلت له العافية والغنى صار في حال من التيه، ونسي شكر الله على هذه النعم، وأنه قد يسلب ذلك في أي لحظة، وإذا ترحل عنه شيء من هذا فإن الدنيا تظلم في عينه، ويظن أن هذا نهاية المطاف، فيظن أن هذا المرض هو النهاية، هي القاضية، فييأس، ويبتئس، ويحصل له الجزع، والضعف، فيتلاشى ذلك التعاظم، والترفع، والقوة التي كان يتوهمها، ثم بعد ذلك أفضى الحال إلى قلق، وضعف، وعجز، ومسكنة، وتجد الواحد من هؤلاء بعدما كان في حال يرى نفسه فيها أنه غير مسبوق، ولا مدفوع عن هذه النعم التي حصلت له، يصير - نسأل الله العافية - إلى حال من الانهيار النفسي، فيبكي كما يبكي الصغير يقول: قال النبي ﷺ: شر ما في رجل: شحٌّ هالعٌ، وجبنٌ خالعٌ[2].
الشح الهالع؛ هالع أي موصوف بأشد الجزع، والضجر.
والجبن الخالع يعني الشديد، كأنه يخلع فؤاده من شدته يعني كما يقال: ينقطع قلبه من شدة الخوف.
هنا قال: رواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح عن أبي عبد الرحمن المقرئ به، وليس لعبد العزيز عنده سواه، عبد العزيز المقصود به ابن مروان بن الحكم، هو الراوي عن أبي هريرة .
الحافظ ابن القيم له كلام على هذا، يقول - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا الآيات: "فأخبر تعالى أن الإنسان خلق على هذه الصفة، وأن من كان على غيرها فلأجل ما زكاه الله به من فضله، وإحسانه"[3].
وقال - رحمه الله -: "وتفسير الهلوع: قال الجوهري: الهلَع أفحش الجزع، وقد هلِع بالكسر فهو هلِعٌ، وهلوع، وفى الحديث: شر ما في العبد: شحٌّ هالعٌ، وجبنٌ خالعٌ[4].
قلت: هنا أمران: أمر لفظي، وأمر معنوي.
فأما اللفظي: فإنه وصف الشح بكونه هالعًا، والهالع صاحبه، وأكثر ما يسمى هلوعًا، ولا يقال: هالع له، فإنه لا يتعدى، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه على النسب كقولهم: ليلٌ نائم، وسرٌّ كاتم، ونهار صائم، ويوم عاصف، كله عند سيبويه على النسب أي ذو كذا، كما قالوا: تامر، ولابن.
والثاني: أن اللفظة غيرت عن بابها للازدواج مع "خالع" وله نظير.
وأما المعنوي: فإن الشح، والجبن؛ أردى صفتين في العبد، ولاسيما اذا كان شحه هالعًا أي: مُلقٍ له في الهلع، وجبنه خالعًا أي قد خلع قلبه من مكانه، فلا سماحة، ولا شجاعة، ولا نفع بماله، ولا ببدنه، كما يقال: "لا طعْنة، ولا جَفْنة" يعني لا هو شجاع، ولا هو بكريم، ولا يَطْرد، ولا يَشْرد، بل قد قمَعَه، وصغَّره، وحقره، ودساه؛ الشح، والخوف، والطمع، والفزع.
وإذا أردت معرفة الهلوع فهو الذي إذا أصابه الجوع مثلاً أظهر الاستجاعة، وأسرع بها، وإذا أصابه الألم أسرع الشكاية، وأظهرها، وإذا أصابه القهر أظهر الاستكانة، وباء بها سريعًا، وإذا أصابه الجوع أسرع الانطراح على جنبه، وأظهر الشكاية، وإذا بدا له مأخذ طمع طار إليه سريعًا، وإذا ظفر به أحله من نفسه محل الروح، فلا احتمال، ولا إفضال، وهذا كله من صغر النفس، ودناءتها، وتدسيسها في البدن، وإخفائها، وتحقيرها، والله المستعان"[5].
يشير إلى قوله تعالى: وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:10].
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الجرأة والجبن، رقم (2511)، وأحمد (8009)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"، وقال الألباني: "إسناده صحيح، وصححه ابن حبان" كما في صحيح أبي داود، رقم (2268).
- المصدر السابق.
- طريق الهجرتين، ص (107).
- رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الجرأة والجبن، رقم (2511)، وأحمد (8009)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"، وقال الألباني: "إسناده صحيح، وصححه ابن حبان" كما في صحيح أبي داود، رقم (2268).
- عدة الصابرين، ص (274- 275).