الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين كما ورد في الحديث الصحيح: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[1]، وفي رواية: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[2]".

قوله - تبارك وتعالى -: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ هكذا قراءة الجمهور بالجمع، وعلى قراءة ابن كثير بالإفراد: لأمَانَتِهم وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ هنا يشمل الأمانات التي ائتمنهم الله عليها، فهي داخلة في هذا، والدين كله بهذا الاعتبار داخل فيه، فإن الله - تبارك وتعالى - يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].

وقد مضى الكلام على هذا، وأن ذلك يشمل الدين ابتداء من الاعتقاد، وكذلك شرائع الإيمان، وهذا لا ينافي ما يذكره بعض أهل العلم من تقسيم للبيان، والتوضيح من أن الدين منه ما هو شعائر، ومنه ما هو أمانات، الشعائر الأشياء الظاهرة كالأذان، وإطلاق اللحية، والحجاب للمرأة، وصلاة الجماعة وما إلى ذلك، والأمانات هي الأشياء التي لا يطلع الناس عليها مثل الطهارة، كون الإنسان يصلي بطهارة، الناس لا يعرفون، فهذا مما يؤتمن عليه الإنسان، وكذلك أيضًا الصيام من الأمانات ونحو هذا، فهذا كله داخل في الأمانات، فحقوق الله ما ائتمن الله العبد عليه، ويدخل في ذلك هذه النفس، وهذا الجسد، فإن الله ائتمنه على ذلك، فليس له أن يتصرف فيه تصرفًا لا يحل، ومن ثَمّ فإنه ليس له أن يقتل نفسه، أو أن يعرضها للتلف، أو أن يتبرع بشيء من أبعاضه، وأجزائه - التبرع بالأعضاء -، فإنه لا يملكها حتى يتبرع بها، فضلاً عن أن يبيعها، فإن الذي يبيع هو الذي يملك، والذي يتبرع هو الذي يملك، وإنما يملك هذه الأجساد ربُّها - تبارك وتعالى -، فأما الإنسان فهو مؤتمن عليها، يجب عليه أن يحافظ عليها، لذلك هؤلاء الذين يغرر بهم، ويُعطَون هذه الأوراق يملئونها؛ وهم لربما طالبات أو طلاب يأتيهم من يستدر عواطفهم في المدرسة، ويقول لهم: هذا بعد موتك، ويكون لك ذخرًا إلخ، فيملأ هذه الورقة وتبقى، فإذا حصل له شيء، أو جيء به منقولاً في حادث أو نحو ذلك - هو لم يمت أحيانًا، وإنما قد يكون مما يسمى بالموت الدماغي يعني لا زال في حكم الحياة شرعًا - جزروه، فقطعوه أوصالاً، وسلخوا جلده، وأخذوا منه كل عضو، حتى العظام وهو حي، يجزر وهو حي، يقطع وهو حي، تؤخذ أعضاؤه وهو حي، هذه جريمة، وقتل لنفس - والله المستعان -، فليس للإنسان أن يتبرع لا في حياته، ولا بعد موته؛ لأنه لا يملك هذا، لكن الشيء الذي لا يتضرر به، وينتفع به غيره، بل قد ينتفع هو ببذله مثل الدم، إن كان لا يضره، فإن ذلك يحصل به فائدة للمتبرع، ويحصل به فائدة لغيره، لكن لا يجوز بيعه، ولا أخذ المكافأة عليه يقال: نعطيك خمسمائة ريال، ليس له هذا.

هذا ما يتعلق بالأمانات التي ائتمنهم الله عليها، بقي الأمانات المتعلقة بالمخلوقين مثل الودائع، فإنه يردها على أصحابها، وهكذا الديون، وحفظ الحقوق، حفظ الأولاد؛ هؤلاء أمانة، الزوجة إذا تزوج امرأة - عقد عليها - فهذه أمانة في يده انتقلت إليه، يجب عليه صيانة هذه المرأة، والمحافظة عليها، والقيام عليها بما يجب، فيأمرها بالحجاب، والعفاف، والستر، ويحملها على الفضائل، وترك الرذائل، كل هذا من القيام بهذه الأمانة، فلا يكون مضيعًا لها، فكل هذا داخل فيه، كذلك العهود، والعقود التي تكون بين العبد وربه، وبين العبد والمخلوقين، النذر أمانة، الكفارات أمانة بأنواعها، كذلك ما يعاهد به العبد ربه، وقل مثل ذلك في عقود وعهود المخلوقين، عهود الحرب والسلم، ما يحصل من حلف، وما إلى ذلك، وكذلك أيضًا في العقود بين الناس في المبايعات، والشركات، والأعمال؛ مما يكون من قبيل الصناعات وغيرها، فحينما يلتزم لهم بمدة معينة، أو بصفة معينة، يؤديها لهذا العمل، أو بوقت يقضيه في عمله، أو في أحوال وأمور شارطوه عليها؛ فيجب عليه أن يؤدي ذلك، ولا يحتاج إلى من يتابعه، ويراقبه، وينقب في أحواله، هل قام بذلك أو لا، هذه صفات أهل الإيمان، وما عدا ذلك فهو من صفات المنافقين: إذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[3]

  1. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق رقم (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم (59).
  2. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق رقم (34)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم (58).
  3. المصدر السابق.