الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أي: على مواقيتها، وأركانها، وواجباتها، ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة، واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها، والتنويه بشرفها كما تقدم في أول سورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] سواء، ولهذا قال هناك: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11]، وقال هاهنا: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ أي: مكرمون بأنواع الملاذ، والمسارّ".

هنا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسر ذلك بما سبق: يُحَافِظُونَ يعني على مواقيتها، وأركانها، وواجباتها، وبنحو هذا قال ابن جرير - رحمه الله -، فيكون ذلك التكرار من أجل الاعتناء، إذا قلنا: إن الأول بمعنى الثاني، أي أن قوله: دَائِمُونَ هو بمعنى ما ذكر بعده في آخر هذه الأوصاف: يُحَافِظُونَ، دَائِمُونَ يعني في المحافظة على أوقاتها، وشروطها؛ على هذا القول، فيكون ذلك لمزيد من الاعتناء، وهذا ترجع إليه عبارات السلف كقول قتادة: على وضوئها، وركوعها، وسجودها ... إلى آخره، كل هذا داخل فيه، إلا أن بعضهم حمله على التطوع في هذا الموضع، ولا دليل عليه؛ إلا أن يكون أراد التفريق بين الموضعين، يعني أن الأول في الفرائض، والثاني في التطوع، كما جاء عن ابن جريج - رحمه الله -، ولكن الذي يظهر - والله أعلم - أن ذلك لا يختص بالتطوع.

وبعضهم يقول: إن الدوام هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل، لا يشتغل عنها بشيء، وأن المحافظة أن يراعي الأمور التي لا تكون الصلاة إلا بها، شرائطها، وأركانها، وواجباتها، ونحو ذلك.

وبعضهم حمل المحافظة على حال تكون بعدها بمعنى أنه لا يأتي بعدها بما يبطلها ويحبطها، ويحبط ثوابها، وهذا كأنهم نظروا إلى لفظ المحافظة من جهة، وأيضًا طلب المفارقة في المعنى بين الأول والثاني، فهنا في الموضع الأول: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ.

وفي الموضع الأخير: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ فكأن هؤلاء نظروا إلى هذا، فقالوا: يحافظون عليها، فلا يذهب أجرها، وثوابها؛ بما يبطلها بعد أدائها، وهذا - والله أعلم - لا حاجة إليه.

فكما سبق أن هذه الأخيرة: أن قوله: عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ قرينة احتج بها من قال: إن الموضع الأول الذي وصفوا فيه بالمداومة: أن ذلك المقصود به السكون في حال الصلاة يعني الخشوع، ففرقوا بين الموضعين بهذا.

ويمكن التفريق بينهما: بأن المداومة تعني المحافظة، لا يصلي أحيانًا، ويترك أحيانًا، وقد يتضمن ذلك السكون فيها الدوام بمعنى: السكون.

وأما الموضع الآخر: آخر هذه الأوصاف: هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ المحافظة عليها أن يأتي بما لا تكون الصلاة إلا به، ويدخل في ذلك الوقت، والشرائط، والأركان، والواجبات، مع عدم تركها، والسهو عنها، لا يشتغل عنها بشاغل، فهو محافظ عليها.

فالمقصود أنهم وصفوا بوصفين فيما يتصل بالصلاة: الدوام، والمحافظة، فلان متصف بالدوام على هذه الصلاة، أو في هذه الصلاة، وكذلك المحافظة.

وقلنا: إن "على" في الموضع الأول: عَلَى صَلَاتِهِمْ يشعر بالمداومة على هذه الصلاة أن يحفظ الوقت، ويداوم عليها بأن لا ينقطع، ولا يترك فرضًا منها، وأن ذلك لو كان المراد به السكون في نفس الصلاة لقيل: في صلاتهم، ولكن هذه قرينة، وتلك قرينة، ولا شك أن التأسيس مقدم على التوكيد، كون الآية الثانية تؤسس معنى جديدًا أولى من القول بأنها تؤكد المعنى السابق لأهمية الصلاة، وكون الصلاة تذكر بوصفين لحال المصلين، في أول أوصاف أهل الإيمان، وفي آخرها، لا شك أن هذا يدل على أهمية هذه الصلاة، وأنها ذات أثر بليغ في ترويض النفوس، ومداواة عللها، فيحصل لها السكون، والطمأنينة، فلا تذهب بها المخاوف، والعلل النفسية، فيكون العبد في حال من القلق، والضيق، والكآبة، بسبب هذه المكابدات: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، ولا يحصل له طغيان حينما تحصل له النعمة.

وهذه الموصولات مكررة لهذه الأوصاف، قال: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ۝ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ۝ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ۝ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ.

كرر هذه الموصولات، فهذا يدل على أن كل وصف من هذه الأوصاف المذكورة بمنزلة، وأنه لجلالته يستحق أن يوصف أو أن يستقل بموصوف منفرد، يعني كان يصح الكلام من جهة اللغة أن يقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وهم يصدقون بيوم الدين، وهم من عذاب ربهم مشفقون، وهم لفروجهم حافظون، وهم لأماناتهم وعهدهم راعون، وهم بشهاداتهم قائمون، وهم على صلاتهم يحافظون، لكن في كل وصف من هذه الأوصاف جاء بالموصول: "والذين هم" "والذين" "والذين" "والذين" كل وصف جعله بهذه المثابة، أبرزه، كل وصف من هذه الأوصاف هو بمنزلة، بحيث يستحق أن يستقل بموصوف على سبيل الانفراد.