الثلاثاء 25 / جمادى الآخرة / 1447 - 16 / ديسمبر 2025
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُوا۟ يُوعَدُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ أي خاضعة تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.

آخر تفسير سورة: سَأَلَ سَائِلٌ ولله الحمد والمنة".

يقول هنا: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ أي: خاضعة تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة يعني الجزاء من جنس العمل، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يعني تغشاهم ذلة، وهذا بمعنى قول قتادة: "أي سواد في الوجه"، فالرهق يعود إلى هذا، يعني ما يغشى الإنسان: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.

الحافظ ابن القيم - رحمه الله - له كلام في هذا، يقول - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فوصفهم بذل الظاهر وهو خشوع الأبصار، وذل الباطن وهو ما يرهقهم من الذل خشعت عنه أبصارهم، وقريب من هذا قوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ۝ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:24-25]، ونظيره قوله: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس:27].

وضد هذا قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [طه:118] فنفى عنه الجوع الذي هو ذل الباطن، والعري الذي هو ذل الظاهر، وضده أيضاً قوله: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:11] فالنضرة عز الظاهر، وجماله، والسرور عز الباطن، وجماله، ومثله أيضاً قوله: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] فجمع لهم بين زينة الظاهر والباطن، ومثله قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] فجمع لهم بين زينة الظاهر والباطن، ومثله قوله: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [الصافات:6-7] فزين ظاهرها بالنجوم، وباطنها بالحفظ من كل شيطان رجيم، ومثله قوله أيضاً: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ [غافر:64] وقريب منه قوله تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] ومنه قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107] فجمع لهؤلاء بين جمال الظاهر والباطن، ولأولئك بين تسويد الظاهر والباطن، ومنه قول امرأة العزيز: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ [يوسف:32] فوصفت ظاهره بالجمال، وباطنه بالعفة، فوصفته بجمال الظاهر والباطن، فكأنها قالت: هذا ظاهره وباطنه أحسن من ظاهره، وهذا كله يدلك على ارتباط الظاهر بالباطن قدرًا وشرعًا، والله أعلم بالصواب"[1].

وقال - رحمه الله -: "ثم ذكر سبحانه حالهم عند خروجهم من القبور فقال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ أي يسرعون، والنصب العلم والغاية التي تنصب فيؤمُّونها، وهذا من ألطف التشبيه، وأبينه، وأحسنه، فإن الناس يقومون من قبورهم مهطعين إلى الداعي، يؤمّون الصوت، لا يُعَرِّجون عنه يمنة، ولا يسرة كما قال: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [طه:108] أي: يقبلون من كل أوب إلى صوته، وناحيته، لا يعرجون عنه، قال الفراء: "وهذا كما تقول: دعوتك دعوة لا عوج لك عنها"، وقال الزجاج: "المعنى لا عوج لهم عن دعائه أي لا يقدرون إلا على اتباعه، وقصده"[2].

  1. التبيان في أقسام القرآن، ص (201 - 203).
  2. المصدر السابق، ص (200).