السبت 20 / ربيع الأوّل / 1447 - 13 / سبتمبر 2025
وَأَنَّا لَا نَدْرِىٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا أَيْ: مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ: لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ، حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ، وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ[1]".

مضى الكلام عليه في شرح الأذكار، وأن ذلك من باب الأدب، فإبراهيم ﷺ قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه فَهُوَ يَشْفِينِ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا فلما ذكروا الشر جاءوا بالفعل المبني للمجهول، ولما جاءوا بالخير قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ومثل هذا في قول الخضر لموسى ﷺ: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [الكهف:82] فأضاف ذلك إلى الله - تبارك وتعالى -، فهنا هذا من باب الأدب في العبارة، مع أن الله خالق الخير والشر، وقد مضى الكلام على هذا في شرح الأذكار، وأن قوله ﷺ: والشر ليس إليك[2] مع أن الله خالق الخير والشر، لكن الشر لا ينسب إليه هكذا استقلالاً وإنما هو في مفعولاته، وليس في أفعاله، فأفعاله كلها خير، وصفاته كاملة، وإنما يفعل لحكمة، وإنما يقع الشر في مفعولاته، فهذا المطر الذي يقع فتنهدم به بعض البيوت، وتنقطع بعض السبل ونحو ذلك؛ هو بالنسبة لهذا الذي وقع لهؤلاء هو شر، لكنه في تقدير الله، وفي أفعاله؛ خير، وحكمة، ونفع عام، وقل مثل ذلك في بعث النبي ﷺ فهو خير، وإن كان ذلك سببًا لذهاب رئاسات على أقوام، وكذلك أيضًا نفوس مزهقة قتلوا في غزواته ﷺ ونحو ذلك، مع أن من أهل العلم من يقول: هذا أيضًا خير لهم؛ لأنهم قتلوا وقُطع دابر الكفر الذي يتمادى ويصدر عنهم، يعني حتى القتل الواقع لهم فيه خير.

"وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِكَثِيرٍ بَلْ فِي الْأَحْيَانِ بَعْدَ الْأَحْيَانِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذا رُمِيَ بِنَجْمٍ، فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ فَقُلْنَا: كُنَّا نَقُولُ: يُولَدُ عَظِيمٌ، يَمُوتُ عَظِيمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ..[3]، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ بِتَمَامِهِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ".

سؤال النبي ﷺ: ما كنتم تقولون في هذا؟ يعني في الجاهلية، فكان يرمى بها في الجاهلية، لكن حينما رمي بنجم فاستنار وهم مع النبي ﷺ فهذا يدل على أنها وجدت بعد بعثه - عليه الصلاة والسلام - لكنها كانت قليلة مقارنة بما كان الأمر عليه، كثر الرمي بها بعد بعثه ﷺ، لكن كان يرمى بها في الجاهلية؛ لأن النبي ﷺ قال: ما كنتم تقولون؟ يعني في جاهليتكم، فكانت في الجاهلية يرمى بها خلافًا لمن قال: إن ذلك لم يكن، يعني في الجاهلية ما كان يرمى بها، فكان موجودًا، ولكنه زاد بعد بعثه ﷺ، وقد سأل معمر بن راشد محمد بن شهاب الزهري - رحم الله الجميع - عن هذا: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، فسأله عن هذه الآية: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا يعني ما كان ذلك يجدونه قبل مبعثه ﷺ؟ فأجابه بنحو ما سبق: غُلِّظتْ، وشُدد أمرها حين بعث ﷺ، وهكذا ذكر ابن قتيبة - رحمه الله -: كان يرمى بها، لكن غُلظ ذلك، وشدد، فلم يكن قبل بعثه ﷺ من الحراسة ما كان بعد بعثه، فكانوا يسترقون السمع، ولربما رُجموا بالشهب في الجاهلية، ولكن بعد بعثه ﷺ مُنعوا من ذلك تمامًا، وهذا الذي يظهر - والله تعالى أعلم - إلا ما شاء الله يعني أن النبي ﷺ أخبر عن الكهنة، وأخبر عن صعود الشياطين، وكيف يأتون إلى الكهنة، وكيف أنه يكذب معها مائة كذبة، فهذا معناه أنهم يلتقطون الكلمة بعد الكلمة مما أراد الله - تبارك وتعالى -، والنبي ﷺ لما خبّأ لابن صياد، وكان يتهم بالكهانة، خبأ له وسأله قال: هو الدُّخ[4] يعني تلقف بعض الكلمة، ولم يستتم له ما أراد - والله أعلم -.

"فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ، وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: وإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] الْآيَةَ".

هؤلاء أعقل من عتاة الإنس، عتاة الإنس حينما يرون مثل هذه الظواهر، والمظاهر التي تكون في العالم العلوي، أو في العالم السلفي؛ يعزون ذلك إلى أمور طبيعية، وهم أبعد ما يكونون عن تفسيرها بأمور تتصل بمعنى كهذا، إن وقع زلزال، أو وقع طوفان، أو وقع ما وقع، بل لو طبقت السماء على الأرض فسروا هذا بتفسيرات وتعليلات لا تزيدهم إلا طغيانًا، وعتوًّا، بل منهم من لا يرضى أبدًا أن تفسر هذه الأشياء بمعانٍ مما يخوف الله به عباده ونحو ذلك كما جاء في الحديث، فإذا فسر الزلزال المدمر بأن هذا وقع بسبب ذنوب بني آدم، ونحو ذلك؛ فإن هذا يكون في غاية الإزعاج بالنسبة إلى هؤلاء، فتأتي الآيات، والقوارع، والعقوبات، ولا يحصل بسبب ذلك لا توبة، ولا رجوع، ولا خوف من الله أبدًا، يقول لي بعض من ذهب إلى بعض البلاد، وحصل في تلك الليلة التي وصل فيها خسوف، ثم حصل زلزال كبير يقول: بقيت تلك الليلة في المسجد، ولم يأتِ أحد، والناس في الساحات شبه عرايا؛ لأنهم خرجوا في ليلتهم هلعًا، فبقوا في الساحات، حشود من السواح، وعالم من الناس كثير، يقول: بقيت إلى الفجر لم يأتِ أحد يصلي الخسوف، وأذن الفجر، ولم يأت هؤلاء من الساحات، وهم ينتسبون إلى الإسلام في مجملهم، وما جاء أحد يصلي الفجر، يتسكعون، حشود في تلك الساحات المجاورة؛ لأنه كان في مكان فيه مساحات، وأماكن، هو ذهب يبحث عن مخطوطة، وكان هذا أول ما استقبله، لاحظ هؤلاء ما تابوا، ولا رجعوا، ولا أنابوا، حتى صلاة الفجر فضلاً عن صلاة الخسوف؛ مثل البهائم.

"وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ - وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ، وَالرَّمْيُ بِهَا - هَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَ، وَالْجِنَّ، وَانْزَعَجُوا لَهُ، وَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لِخَرَابِ الْعَالَمِ كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ، أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ نبيًّا رسولاً رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِمَا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ، وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ، وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عبد يا ليل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ - يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ -، وإن نظرتم فلم تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا، فكفوا عن أقوالهم، وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا، فَأَتَوْهُ فَشَمَّ، فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ، فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِين، فَقَدِمُوا مَكَّةَ، فَوَجَدُوا نبي اللَّهِ ﷺ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَمْرَهُمْ عَلَى رسوله ﷺ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ مِنْ كِتَابِ السِّيرَةِ الْمُطَوَّلِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ".
الكلكال أي الصدر، أو هذه العظام الفقرتان، يعني دنوا منه جدًّا.
  1. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (771).
  2. المصدر السابق.
  3. رواه مسلم، كتاب الآداب، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم (2229).
  4. الحديث رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، رقم (1354) ومسلم، كتاب في الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، رقم (2930) (2931).