السبت 20 / ربيع الأوّل / 1447 - 13 / سبتمبر 2025
وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ۝ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ۝ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ۝ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ۝ وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ۝ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً ۝ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن:11- 17].

يقول تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا مُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ: طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً، وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أَيْ: مِنَّا الْمُؤْمِنُ، وَمِنَّا الْكَافِرُ".

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فُسر: الصَّالِحُونَ بالمسلمين العاملين بطاعة الله - تبارك وتعالى -، وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كما يقوله ابن جرير - رحمه الله -، والحافظ ابن القيم.

ابن القيم - رحمه الله - ذكر أن هذا يتضمن المراتب الثلاث التي ذكرها الله : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] فهؤلاء أهل الاستجابة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا أمة الإجابة التي اصطفاها الله وهي أمة محمد ﷺ المستجيبون منهم لدعوته هم على هذه الطبقات الثلاث مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فهنا: السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه في هذه الجملة، ويبقى الآخرون هم الْقَاسِطُونَ: فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.

هم يتحدثون عن أحوال الجن أن فيهم الصالح وغير الصالح: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً الطرائق جمع طريقة وهي المذهب الذي يذهب إليه الإنسان، والقِدد يعني الضروب، والأجناس المختلفة كما يقول ابن جرير - رحمه الله - في تفسير هاتين اللفظتين: طَرائِقَ قِدَداً والمقصود جماعات متفرقة، وأصناف مختلفة، فالقِدَّة هي القطعة من الشيء تقول: صار القوم قِددًا يعني تفرقت أحوالهم، يعني طوائف متفرقة، ذوي طرائق قِددًا، أو كانت طرائقنا طرائق قِددًا أو نحو ذلك، مما يمكن أن يقدَّر، والمقصود أنهم كانوا أهواء مختلفة، وفرقًا شتى؛ كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، وابن جرير يفسر الطريقة بالمذهب، وكذلك الحافظ ابن القيم، يعني مذاهب شتى، وأهواء متفرقة فهم على أديان مختلفة كالإنس، ومذاهب أيضًا، وآراء متفرقة متباينة، وأقوال السلف في هذا متقاربة يعني تجد من السلف من يقول: فيهم نصارى، وأهل إسلام، ويهود؛ ونحو ذلك، ومجوس كما جاء عن سعيد بن المسيب، وهذا تفسير له بما يقربه من المثال، وهكذا قول من قال كمجاهد والحسن: "فيهم قدرية، ومرجئة، ونحو ذلك كالرافضة"، وهكذا من فسره بتفسير مجمل قال: "أهواء مختلفة، وأديان" كالسدي، والضحاك، هذا كله يرجع إلى شيء واحد، فهؤلاء الجن كالإنس فيهم الديانات المختلفة، وفيهم الأهواء يعني الفرق كالإنس، ففيهم رافضة، وفيهم أشاعرة، ومعتزلة، وصوفية، وفيهم قدرية، وكل هذه الأهواء موجودة في الجن، فيهم أهل سنة وغير ذلك، كالإنس تمامًا - والله المستعان -.

هذا التفرق إذا كان موجودًا في الإنس فهو في الجن أكثر؛ لأنهم كما قال شيخ الإسلام: "هم أهل خفة، وظلم"، فهذه الخفة والظلم تدفع إلى مزيد من تجاوز الحد، والانحراف، ولذلك كان الانحراف فيهم أكثر من الإنس نظرًا لطبيعتهم، فالنار من طبيعتها الخفة: مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [الرحمن:15] بخلاف الطين فهو إلى الرصانة، والرزانة؛ أقرب، فإذا وجدت في الإنس هذه الحماقات، والطوائف، والضلالات، والأهواء؛ فالجن من باب أولى.

"وَروى أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَادُ فِي أَمَالِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ: تَرَوَّحَ إِلَيْنَا جِنِّيٌّ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: الْأُرْز، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ بِهِ، فَجَعَلْتُ أَرَى اللُّقَمَ تُرْفَعُ وَلَا أَرَى أَحَدًا، فَقُلْتُ: فِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي فِينَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قَالَ: شَرُّنَا"[1]، عَرَضْتُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ، فَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الْأَعْمَشِ.

"تروَّح إلينا جني" كأنه استروح، وانبسط، فتكلم، وأنس بهم، وصار يأكل، ويتحدث.

الأصل أن الجن لا يصدقون، الكذب فيهم أكثر كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله -، لذلك هؤلاء الذين يسألونهم دائمًا من الرقاة، ويأخذون ذلك كأنه وحي منزل؛ هذا غلط، فيقول: أصابك فلان، فعل بك فلان، وأحيانًا يسألهم أسئلة خارجة عن ذلك كله، فيسألون عن قبائلهم، ولربما قال لهم هذا المتكلم: إنه من ملوك الجن، وعرض عليه خدمات، ونحو هذا، وهذا يصدقه في كل ما يقول، والواقع أنهم أهل كذب، ولو عُكست القضية وكان الإنس هم الذين يرون الجن، ويتلاعبون بهم؛ لفعل بهم سفهاؤنا الأفاعيل، وأضافوا إلى أنفسهم من الملك، والعظمة، وبدءوا يقولون: ماذا تريد؟ وماذا تتمنى؟ فهؤلاء يصدقونهم بكل ما يقولون، ويسجلون هذا في شريط، وينشرونه، وقد لا يكون أصلاً هذا الذي يتكلم من الجن، وكلما أوغل العاقل في الرقية أدرك أنه يدخل في متاهات وفي أمور لا تزيده إلا حيرة: هل هذا فيه جن أو فيه عين؟ الأعراض تتشابه، أو أنه عنده إشكال أصلاً فيما يتعلق بأمور نفسية أحيانًا، فيظهر عليه من التغيرات، ومن الكلام - إلى آخره - أشياء هائلة لا يتصورها الإنسان، دخلتُ مرة المسجد هذا بعد صلاة العشاء فوجدت أحد الإخوان من طلبة العلم - وهو ليس عنده إشكال أن يأتي ويتحدث في هذا المكان -، ووجدته حاسرًا في حالة يرثى لها، واقفاً هنا لم يصلِّ، فسألته، فقال: أختي هنا في الخارج مع زوجها، ونحن في حالة لا يعلمها إلا الله، فأجلسته: ما الذي حصل؟ فقال: أختي معها أولادها الصغار، معها ولدان، فأغلقتْ باب السيارة، ونحو ذلك، فضَرب رأس الولد، فأصابها شيء، وشعرت أن شيئًا في جسمها، يقول: فجلست أرقيها، وأنا لا أعرف الرقية، فجلس يتحدث رجل يقول: فبقيت طول الليل، من بعد العشاء إلى الفجر، يقول: مواصل وأنا على هذه الحال، وأقرأ وأشرب، ثم أمجُّ الماء عليه، ويتكلم، قلت له: كيف عرفت أن هذا من الشياطين؟ قال: هذا مارد، أخبرنا هو، فقلت له: وما يدريك أن كلامه صحيح؟ قال: هو ذكر لنا معلومات دقيقة عن الأسرة لا أحد يعرفها، فقلت له: لا تعجب، وأعطيته رقم أحد الناس الذين يعرفون هذه الأشياء، وقلت له: تواصل معه، وكان قد ذهب بها من قبل إلى راقٍ، وكواها بالكهرباء، أو آذاها، وقال: هذا يحتاج إلى جلسات طويلة، هذا مارد، فتواصلَ مع هذا الشخص، وبعد اليوم الثاني وإذا به يضحك، وبِسَمْتِه، ولابس، قلت له: ما الذي حصل؟ قال: الحمد لله، ذهب هذا كله، فلاحِظ: كانوا سيدخلون في نفق لا يخرجون منه إلا أن يشاء الله، قال: هذا كله ذهب، قلت له: ما الذي حصل؟ قال: جلس معنا الشخص الراقي، وسألها بعض الأسئلة، فقال لها: أنت تدركين الكلام الذي كنتِ تقولينه؟ قالت: نعم، قال: أصلاً الذي فيه مس - لا مارد، ولا غير مارد - لا يدرك، ولا يعي ما قال، فأنت التي كنت تتكلمين، فقالوا: وهذا الصوت صوت رجل؟، قال: أنت تعانين من بعض الأمراض؟، عندك إشكالات في الغدد؟ فقالت: نعم، عندها غدة تعالج عند طبيب، فقال: اتصلوا بالطبيب، قال: أنت أخذتِ الدواء؟ قالت: لا، من اثني عشر يومًا، فاتصلوا على الطبيب، فسألوه عن ترك الدواء، وعن الآثار، قال: يكون الصوت خشنًا جدًّا، ويكون هناك برودة في الأطراف، نفس الأعراض التي فيها، وكانوا يظنون أنه رجل، وكان يقول لهم: الشيخ بيته محصن، اذهبوا بها إلى بيته، هذا المارد يقول لهم هذا، أنت تعقل ما تقول؟ هذا المارد، حريص عليها! ويقول: اذهبوا بها إلى بيت فلان، كيف يدلكم المارد على هذا؟! المهم، ذهب هذا كله، كل هذه الأوهام ذهبت، وإلا فكان يمكن أن يدخلهم هذا الراقي وغيره - ولا أقصد الجميع - أن يدخلهم في متاهات سنوات، وليست شهورًا ولا أيامًا - والله المستعان -.

  1. الأثر أخرجه السخاوي في البلدانيات، ص (176).