الأحد 21 / ربيع الأوّل / 1447 - 14 / سبتمبر 2025
وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا۟ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ ﷺ يَتْلُو الْقُرْآنَ، كَادُوا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْحِرْصِ لَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَدَنَوْا مِنْهُ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ، فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن:1] يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ[1]" هَذَا قَوْلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، وَروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي، وَأَصْحَابُهُ يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، قال: عَجِبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالَ: فَقَالُوا لِقَوْمِهِم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: "لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ؛ كَادَتِ الْعَرَبُ تَلْبُدُ عَلَيْهِ جَمِيعًا"، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: "وأنه لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قَالَ: "تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ، وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ؛ فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ ينصره، ويمضيه، ويظهره على من ناوأه" وهذا قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وهو اختيار ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا أَيْ: قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَمَّا آذَوْهُ، وَخَالَفُوهُ، وَكَذَّبُوهُ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، واجتمعوا على عداوته: إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي أَيْ إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَسْتَجِيرُ بِهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً".

هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ اللَّهِ يَدْعُوهُ.

وَأَنَّهُ كما سبق أن بيَّنا أن قراءة الجمهور بفتح همزة أن: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ فيكون ذلك عائدًا على أوحي أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وأوحي إليّ أنه: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا؛ فـعَبْدُ اللَّهِ هنا المراد به النبي ﷺ في هذه الأقوال الثلاثة، لكن: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا مَن هؤلاء الذين كادوا يكونون عليه لبدًا؟

ذكر ثلاثة أقوال:

الأول - من غير نظر إلى ترتيب ابن كثير رحمه الله -: أن المقصود بذلك: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا يعني أن أصحابه حينما صلى بهم، فكانوا يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، وينقادون خلفه، فيكون ذلك من قول الجن يصفون ما شاهدوا من صلاة النبي ﷺ مع أصحابه.

ولكن هذا قد يشكل عليه ما سبق من مرجع الكلام إلى قوله: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الجن: 1] فأوحي إليه: أنه لما قام عبد الله كاد أصحابه يكونون عليه لبدًا؟!

لا، وإنما المقصود - والله أعلم - أن ذلك يحتمل أن يكون من قول الله : وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ، فيكون المعنى الثاني: لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ أي: النبي ﷺ يدعو إلى الله، يدعو إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ تلبّد عليه المشركون، اجتمعوا فرموه عن قوس واحدة من الإنس، وعلى القول الآخر - وهو أوسع من هذا، ولا ينافيه -: أنه تلبّد عليه الإنس والجن على سبيل المضادة، والمحادة، والعداوة، والصد عما يدعو إليه.

فهذه ثلاثة أقوال يمكن أن تُجمع في قولين.

وإذا أردنا أن نجعلها ثلاثة يمكن أن نجعل الثالث: أن هؤلاء الجن اجتمعوا يستمعون من النبي ﷺ حتى تلبدوا، بمعنى أنهم اقتربوا منه جدًّا، وتقاربوا، وتزاحموا من أجل أن يستمعوا وذلك ببطن نخلة - كما سبق -، وصاروا يستمعون قراءته، واقتربوا هذا الاقتراب، فهذا تحتمله الآية احتمالاً قريبًا يعني كاد الجن أن يكونوا على النبي ﷺ بهذه المثابة والصفة: لِبَدًا يعني متراكمين من ازدحامهم، وتقاربهم من أجل سماع القرآن، يعني كأنه يركب بعضهم بعضًا.

وعلى المعنيين قبله: أن ذلك باعتبار عداوة الكفار إما من الإنس، أو من الإنس والجن، حَرَدًا على النبي ﷺ تلبد عليه هؤلاء الأعداء من شياطين الإنس، والجن، ليطفئوا نور الله - تبارك وتعالى -، فهذا المعنى الذي مال إليه، ورجحه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، ولكن قوله لما ذكر القول الثالث: تلبدت الإنس، والجن، قال: وهو اختيار ابن جرير، الواقع أن عبارة ابن جرير: كادت العرب أن تكون عليه جميعًا في إطفاء نور الله، "العرب" فهو لا يتكلم عن الجن، فقول ابن جرير: إن ذلك في عداوة الإنس، وليس الإنس والجن، واضح؟ العبارة التي نقلها ابن كثير أنها الجن، والإنس، وعبارة ابن جرير أضيق من هذا، فهو يتكلم عن الإنس، وهذه عبارته.

ابن جرير طبعًا يحتج على هذا المعنى على هذا الترجيح: أن المقصود في العداوة، وليس المقصود أن أصحابه يسجدون خلفه مثلاً، ويركعون بركوعه ونحو ذلك، أو أن الجن اقترب بعضهم من بعض، واقتربوا من النبي ﷺ: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا لماذا قال: العداوة؟

قال: القرينة أنه قبله قال مقررًا للتوحيد: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فقال: إن المساجد لله يعني يُوحَّد بها، ويعبد، ولا تكن لغيره، والنهي الصريح عن الشرك: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ثم قال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ يعني يدعو إلى توحيده: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا يعني رموه عن قوس واحدة بالعداوة، يرى أن هذه قرينة، يقول: جاءت هذه الآية بعد هذه، فهي في الدعوة إلى التوحيد، فهؤلاء: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا وليس من أجل أن يستمعوا قراءته، ولا من أجل أنهم يصلون خلفه، ويستجيبون له هذه الاستجابة العظيمة، لا، وإنما نفروا غاية النفور، وواجهوه بالعداوة، هذه القرينة التي جعلت ابن جرير يختار هذا القول، وهي صالحة لقول من قال: إن ذلك في الجن، والإنس، كما اختار ابن كثير - رحمه الله - أيضًا.

يعني المقصود العداوة، سواء قيل: الإنس عداوة العرب له مثلاً، أو قيل: الإنس والجن، ما هي القرينة؟

على هذا اختيار ابن جرير وابن كثير يعني أن ذلك في العداوة، يعني أصل القول واحد، هو ما قبله من ذكر التوحيد، والدعوة إلى التوحيد، والأمر بالتوحيد، والنهي عن الإشراك، فهذه قرينة على أن المقصود العداوة لما واجههم بهذا كاشروه بالعداوة: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا، وهكذا كل داعية من أتباع الرسل إلى التوحيد فإن الأعداء يتكالبون عليه حتى يصير بهذه المثابة، بقدر ما عنده من الدعوة إلى هذا التوحيد، والصبر عليه، والبذل، والنفع، والانتشار، فيحاربونه، ويجتمعون على حربه بكل سبيل مستطاع: كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا فهم لا يتركون أهل الحق، ولكن المخذول من خذله الله، والموفق من وفقه الله ، والناس: كل الناس يغدو؛ فبايع نفسه، فمعتقها، أو موبقها[2] فمنهم من يكون في ركاب الشيطان، ومنهم من يكون في حزب الرحمن، والله المستعان.

وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] فكل راكب في مساخط الله فهو من خيله، وكل ماشٍ في ذلك فهو من رجله، وكل صوت في قناة فضائية، أو غيرها من أصوات اللهو، والمعازف وغير ذلك؛ فهو أيضًا من صوت الشيطان.

واللِّبَد عرفناه، ولا زالت هذه اللفظة مستعملة عندنا إلى اليوم، فالشيء الملبَّد، وتلبّد يقال للشيء الذي التصق بعضه ببعض، تراكم؛ يقال له ذلك، وكذلك الشعر الكثيف الذي في عنق الأسد يقال له: لُبْدة.

"وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا أَيْ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ، وَعَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِي هِدَايَتِكُمْ، وَلَا غَوَايَتِكُمْ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ .

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يُجِيرُهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، أَيْ لَوْ عَصَيْتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِنْقَاذِي مِنْ عَذَابِهِ: وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: "لَا مَلْجَأَ"".

  1. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/257).
  2. رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم (223).