قوله: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا هذا من قول الجن، فهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا.
وكان من مقولهم: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا هكذا بفتح الهمزة: وَأَنَّهُ في قراءة حمزة، والكسائي، وابن عامر، وحفص: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وهكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها: وَأَنَّهُ وَأَنَّهُ وذلك أحد عشر موضعًا إلى قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19].
وقرأ الباقون بكسر الهمزة: وإِنَّهُ في هذه المواضع، إلا في قوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ [الجن:18] فهذا اتفقوا على الفتح فيه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ.
فقراءة الفتح في هذه المواضع يمكن أن يكون ذلك - والله تعالى أعلم - باعتبار: أنه معطوف على محل الجار والمجرور في قوله: فَآمَنَّا بِهِ الإيمان - كما بيَّنا - بمعنى الإقرار، والتصديق الانقيادي، يعني: أذعنا، وأقررنا، وصدقنا؛ أنه تعالى جد ربنا.
فيكون وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا في جملة ما آمنوا به، وحصل لهم الإيمان به: أنه تعالى جده - تبارك وتعالى - عن أن يكون قد اتخذ: صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، أما من قرأ بالكسر فيمكن أن يكون ذلك عطفًا على قولهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا مكسورة الهمزة، فيكون ذلك عائدًا عليها.
فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا "وقالوا: إنه" والهمزة تكون مكسورة بعد القول قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وهكذا - والله تعالى أعلم -.
هذا من كلامهم، مما هو محكي عنهم في قوله: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا على تفاصيل في بعض القراءات، أو بعض الروايات في بعض المواضع.
وهذا يختلف باعتبار: أنه من كلام الجن، أو أنه من كلام الله، في بعض هذه المواضع، ولعله يأتي إيضاح بعض ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
الجمهور يقرءون: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن:19] بالفتح، باعتبار أنه معطوف على قوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ، وفي القراءة الأخرى قراءة نافع وابن عامر، وهي رواية أيضًا عن عاصم: بالكسر في هذا الموضع، عطفًا على: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - كما سبق -، ويأتي مزيد من الإيضاح - إن شاء الله تعالى - في مواضع أخرى.
يعني مثلاً في قوله: أَنَّهُ اسْتَمَعَ هذا متفق على الفتح فيه، وكذلك: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ [الجن:18]، وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الجن:16]، كما اتفقوا على الكسر في قوله: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ [الجن:21].
وأما قوله - تبارك وتعالى -: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا فما المراد به؟، كما قال هنا عن ابن عباس - ا -: أي فعله، وأمره، وقدرته، وكذلك ما ذكر من الروايات: من آلائه ونعمه على خلقه، أو من ذكر جلاله.
كل هذه المعاني متقاربة، فإن الجَد هو: أبو الأب، أو أبو الأم؛ في أحد معنييه؛ وهذا غير مراد هنا، ولا يعتقده الجن، خلافًا لمن زعم من المفسرين أن الجن قالوا ذلك جهلاً منهم، هذا غير مراد إطلاقًا، وإنما أرادوا المعنى الآخر فإن الجَد في كلام العرب يفسر بالحظ، والعظمة، والجلال، وما أشبه ذلك من المعاني، وهذا تفسير له بمعنى واحد يعني إذا وجدت من يقول: الجد هو الحظ: وتعالى جدك[1] مثلاً، ولا ينفع ذا الجد[2] يعني: الحظ.
فالمقصود: أن عظمة الله - تبارك وتعالى - وجلاله تقتضي تنزهه عن الصاحبة والولد؛ لأنه كما يقول ابن جرير - رحمه الله -: إنما يفتقر إلى الصاحبة والولد من كان ضعيفًا، وذلك أن ضعفه يقتضي قضاء الوطر، وما يقضي به وطره من الصاحبة، وما ينتج عن ذلك من الولد، فهو نتيجة لقضاء هذا الوطر، هذا ضعف، وحاجة، وكذلك أيضًا الولد فإنه يحتاج إليه ليكون امتدادًا لوجوده، وليكون معينًا له، وليتجمل به في المجالس ونحو ذلك، فإن مقتضى غنى الله - تبارك وتعالى - وعظمته أن لا يكون له صاحبة، ولا ولد.
والمقصود: أن الجد يأتي بهذا المعنى: العظمة، والجلالة، تقول: جَدّ في عيني، ومنه قول أنس : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا"[3] "جد" يعني عظم، صار عظيمًا؛ لأن هاتين السورتين تضمنتا كثيرًا من شرائع الإسلام، والأحكام جملة، وتفصيلاً.
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا يعني ارتفعت عظمة ربنا، وجلاله كما يقوله بعض السلف؛ كعكرمة ومجاهد.
وهكذا قول من قال: غناه، يعني أنه مستغنٍ عن الصاحبة، والولد، فهو العظيم الأعظم، وهو أجلّ من أن يفتقر إلى شيء من ذلك كما يقوله الحسن البصري.
فالحظ يقال له: جد، ويقال: للعظمة فلا يلتبس، فهو يرجع إلى شيء واحد، بالاعتبار الذي ذكرته آنفًا، وقد مضى الكلام في شرح الأذكار على دعاء الاستفتاح: ولا ينفع ذا الجد منك الجد[4] كما يقول أبو عبيد والخليل بن أحمد يعني: صاحب الحظ لا ينفعه حظه عندك، أو يعني الغِنى لا ينفع صاحب الغنى غناه.
فهذا الحظ هو الغِنى حظه من الدنيا، حظه من هذا المتاع، والحطام، فسره أبو عبيد والخليل بالغنى: ولا ينفع ذا الجد[5] يعني الغني، لا ينفع صاحب الغنى غناه.
وما ذكرته هناك من المعاني المذكورة كل ذلك يرجع إلى هذا في مجمله، وابن جرير - رحمه الله - يفسره بنحو من هذا، يقول: تعالت عظمتك، يعني وقدرتك، وسلطانك، وذكر هذا الاعتبار الذي أشرت إليه: أنه إنما يحتاج للولد لهذا الضعف، والفقر، مع أن من أهل العلم من فسر قوله ﷺ: ولا ينفع ذا الجد[6] بمعنى آخر، لكن الذي عليه عامة أهل العلم هو ما ذكرت، فجدُّه - تبارك وتعالى - مفسر بهذا، فمن قال: آلاؤه، ونعمه؛ كالضحاك فكل هذا قريب.
وهكذا من قال: ملكه، وسلطانه؛ كما يقوله بعض أصحاب المعاني، كأبي عبيدة والأخفش، وهكذا من قال: جده أي: أمره، فيمكن أن تجمع هذه العبارات، وقول من قال: إنها قدرته، يعني أن الله أعظم، وأجل؛ من أن يتخذ صاحبة، ولا ولدًا؛ لأنه الغنيُّ الذي له الغِنى المطلق، فشأنه وأمره أعظم من ذلك، فهو غير مفتقر إلى شيء من هذا، هكذا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى - والله تعالى أعلم -.
وما بعده مبين لذلك: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا فهذا بيان لتعاليه، تعالى جده ، وتقدست أسماؤه، تعالى جلاله، وتعالت عظمته عن اتخاذ الصاحبة، والولد، فهو الغنيُّ الغِنى المطلق.
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب حُجة من قال لا يجهر بالبسملة، رقم (399).
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (844)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم (593).
- رواه أحمد في المسند، برقم (12215)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين" .
- رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم (844)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم (593).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.