السبت 20 / ربيع الأوّل / 1447 - 13 / سبتمبر 2025
وَأَنَّهُۥ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثُمَّ قَالُوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: "سَفِيهُنَا يَعْنُونَ إِبْلِيسَ"، شَطَطًا قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: "شَطَطًا أَيْ جَوْرًا"، وَقَالَ ابن زيد: "أي ظُلْمًا كَبِيرًا".

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: سَفِيهُنَا اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً، أَوْ وَلَدًا، وَلِهَذَا قَالُوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا أَيْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ: عَلَى اللَّهِ شَطَطًا أَيْ: باطلاً، وزورًا، ولهذا قالوا: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَيْ: مَا حَسِبْنَا أَنَّ الإنس، والجن يتمالئون على الكذب على الله - تعالى - فِي نِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ، وَالْوَلَدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الْقُرْآنَ، وَآمَنَّا بِهِ؛ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يكذبون على الله في ذلك".

قوله - تبارك وتعالى - عن قول الجن: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا المراد بهذا السفيه الذي أشاروا إليه: هنا قول مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، قال: يعني إبليس، وهذا القول قال به آخرون من السلف أيضًا كابن جريج، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -.

ولكن المعنى - والله تعالى أعلم - أعم من هذا، فإن السفيه هنا مفرد مضاف، وهو للعموم، يعني: يقول سفهاؤنا على الله شططًا فهو بمعنى الجمع، ولهذا فسره بعض أهل العلم بمشركيهم، وعصاتهم، ولا يختص ذلك بإبليس، وإنما يقول بذلك إبليس وأتباع إبليس - والله أعلم - وكأن هذا أقرب، لكن في الأصل: هل اقتصر على تفسيره بإبليس فقط كما هنا في المختصر؟.

هذا يدل على أن ابن كثير - رحمه الله - اختار هذا القول، وكذلك ابن جرير.

شَطَطًا قال: أي: جورًا، عن السدي عن أبي مالك، وقال ابن زيد: "أي: ظلمًا كبيرًا"، وذَكر هنا: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: سَفِيهُنَا اسم جنس.

هذا لو قال: وأنه كان يقول السفيه مثلاً فتكون "أل" عهدية، لكن: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا فيمكن هذا أن يكون هو الأكمل في السفه، لكن يقال: إنه يدخل في ذلك دخولاً أوليًّا، لكن تخصيص المعنى به!، يقول: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا قالوا: لهذا قالوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا أي: قبل إسلامه، كيف يأتي هذا إذا كان المراد إبليس؟

لكن هذا باعتبار الاحتمال الذي ذكره، قال: ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: سَفِيهُنَا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة، أو ولدًا، ولهذا قالوا: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا.

كَانَ في الماضي أي قبل اسلامه: يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا أي: باطلاً، وزرواً، المقصود: الغلو في الكفر، وتجاوز الحد، ففسر الشطط بالجور هنا كما جاء عن أبي مالك، وفسر: بالكذب أيضًا كما قال الكلبي، فهذا تفسير له بالمعنى، يعني ليس ذلك أصل معنى لفظ الشطط في لغة العرب فإن أصله البعد عن القصد، ومجاوزة الحد، فهذا الذي يقول بأن لله شريكًا، أو أن له صاحبة، أو ولدًا يكون قد تجاوز الحد، ويكون كاذبًا في قوله، ودعواه، فتفسير من قال بأنه الكذب هو تفسير له بالمعنى، فإن قوله هذا كذب، لكن أصل الكلمة "الشطط" هي بمعنى ما ذكر - والله أعلم - البعد عن القصد، والاعتدال بمجاوزة الحد.

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا قال: ولهذا قالوا ... إلى آخره.

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا هذا عجيب، ويحتاج إلى وقوف عنده، يقف الإنسان يتأمل، ويتدبر في هذا الموضع، يعني أن المعنى كما قال ابن كثير وهو الذي قاله المفسرون: ما حسبنا أن الإنس، والجن؛ يتمالئون على الكذب على الله - تعالى - في نسبة الصاحبة، والولد إليه، يعني لما سمعوا القرآن علموا أن ذلك يعني نسبة الصاحبة، والولد؛ إلى الله - تبارك وتعالى - أنه كذب، وافتراء على الله، لكن انظر إلى قولهم هذا، وهم صادقون فيه، هؤلاء آمنوا، وذكر الله قولهم.

وكما هو معلوم: أن الحكايات في القرآن إذا لم يأتِ قبلها، أو بعدها، أو في أثنائها؛ ما يبطلها فالأصل أنها صحيحة، فهم يقولون هذا، والقرآن أقرهم عليه، يعني أنهم صادقون في قولهم هذا، ما كانوا يظنون أن تتمالأ الجن والإنس في الكذب على الله - تبارك وتعالى - في نسبة الشركاء، والأنداد، والصاحبة، والولد، يعني هذا الإشراك وقع للإنس، ووقع للجن، فيقولون: ما كنا نظن، والظن هنا ليس بمعنى اليقين، وإنما بمعنى: غلبة طرف الرجحان، فليس كل ظن في القرآن بمعنى اليقين، فهو يأتي بمعنى: اليقين، ويأتي بمعنى غيره، فهنا يقولون: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ بمعنى أنهم لما رأوا هذا التوافق عند الإنس، والجن؛ بهذا الباطل ظنوا أن ذلك حق، وأنهم ما اتفقوا على هذا إلا لأنه حق، وهذا فيه عبرة: أن كثيرًا من الناس يغترون بالباطل لما يرون من توافق عليه لدى الكثير من الناس، لاسيما من يحسنون الظن بهم، وفيما يذكره أهل العلم من المناظرات: ما وقع مع رجل من النصارى لمّا انقطعت حجته، وبان له، وظهر أن ما هو عليه من الدين، والإشراك، والتثليث، ونسبة الصاحبة والولد إلى الله - تبارك وتعالى - أن هذا باطل، ثم لم يلبث أن كان جوابه أن قال: إنه يعلم، أو إن ذلك بيّن ظاهر، يعني أن هذا القول لا وجه له، لكن يقول: نظرت في أهل ملتنا من أولهم إلى آخرهم على كثرتهم يقولون بذلك، ويقررونه؛ فعلمت أنه حق، يقول: تتابُعهم عليه، وتواطؤهم على هذا؛ دليل على أنه حق، هذا الدليل عنده بعدما بُين له بطلان ذلك، وأقر ببطلانه، فكان هذا هو الجواب، فالاغترار بما عليه هؤلاء من أهل الباطل لربما يوقع الكثيرين بهذا الإصرار على باطلهم، أو الاغترار بحال هؤلاء، كيف يكون هؤلاء على باطل، هؤلاء الذين يحسنون بهم الظن؟

لذلك ذكر المعلمي - رحمه الله - في كتابه: "التنكيل" أشياء في طُرق الهوى إلى النفوس، ذكر أشياء عجيبة منها ما يتصل بهذا المعنى أنه إذا أذعن، وأقر بالحق، وكذا، فيعني هذا أنه ينسب أهل ملته، وقومه؛ ونحو ذلك إلى الباطل، هذا بالإضافة إلى أن هذه الجهود التي بذلت من قِبله، ومن قِبل غيره؛ في دعوته إلى ما هو عليه، كل ذلك ذهب هباء منثورًا، فيشق ذلك عليه، فيؤثر البقاء على باطله.

وابن القيم - رحمه الله - تكلم على تقديم الإنس على الجن هنا في قول الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وحاصل كلامه - رحمه الله - أنه يقول: قدموا الإنس كأن ذلك باعتبار أنهم قالوه من باب دفع التهمة؛ لئلا يظن قومهم حينما يخاطبونهم بدعوة التوحيد أنهم إنما مالئوا طائفة من الإنس على هذا، فجاءوا إلى قومهم بما لا عهد لهم به، فهم ابتدءوا بالإنس قالوا: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فهم يقولون: الإنس وقعوا في نفس المشكلة، فنحن ننكر على الطائفتين.