هذه الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في مجملها ترجع إلى معنيين، فالله - تبارك وتعالى - يقول عن قول الجن: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا الضمير يرجع إلى من؟
هذه المعاني المذكورة المنقولة عن السلف هي عائدة إلى قولين، وذلك باعتبار مرجع الضمير: فَزَادُوهُمْ من الذي زاد الآخر بهذا الصنيع - بهذه الاستعاذة -؟ هل الجن زادوا الإنس رَهَقًا؟، وما المقصود بهذا الرهق الذي وقع لهؤلاء المستعيذين حينما استعاذوا بالجن؟ أو أن المقصود أن الإنس زادوا الجن رهقًا حينما استعاذوا بهم؟ هذا في مرجع الضمير.
وحاصل هذه الأقوال لو نظرت إليها، وما ينقل عن السلف من غير هذا مما لم يذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كل ذلك يرجع إلى هذين المعنيين إلا ما شذ.
المقصود: أن المعنى الأول: أنهم زادوهم رهقًا يعني زاد رجال الجن مَن تعوذ بهم من رجال الإنس رهقًا؛ يعني رجال الجن زادوا مَن تعوذ بهم رهقًا يعني فُسر خوفًا، زادوهم خوفًا، بمعنى أنهم علموا أن الإنس يخافون منهم، فزادوهم خوفًا، وتسلطوا عليهم لمّا علموا أنهم يحسبون لهم حسابًا، ويخشونهم؛ فعلوا بهم ذلك، زادوهم خوفًا منهم، وتسلطوا عليهم، فهذا أيضًا مع قول من قال: زادوهم كفرًا، باعتبار أن هذه الاستعاذة كفر، فالجن يوقعونهم في هذا كله، وهذا المعنى قريب، وله وجه، فهؤلاء الذين يستعيذون بغير الله - تبارك وتعالى - لا يزيدهم هذا اللجوء إلا ضعفًا، ولا يحصل لهم مطلوبٌ بحال من الأحوال، والجن حينما علمت ذلك من حال هؤلاء تسلطوا عليهم، وأخافوهم، فلم تزدهم هذه الاستعاذة إلا خوفًا، فلم يحصل لهم الأمن الذي طلبوه، وكذلك هم في فعلهم هذا حينما يستعيذون بغير الله فهذا من قبيل الإشراك، حينما يقول قائلهم: "أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه" فهذا شرك، وإنما يستعاذ بالله - تبارك وتعالى -، فالجن يتسلطون، الشياطين يتسلطون على النفوس بهذا وهذا، وكلما علموا ضعفًا وخوفًا ازداد هذا الرهق، ولذلك هؤلاء الذين يلجئون إلى الجن، والسحرة الذين يتوصلون بهم إلى الجن، ويذهبون إلى الكهنة، والعرافين؛ لا يزيدهم ذلك إلا ضعفًا، وما رأيت أحدًا قط ذهب إلى العرافين، أو الكهان، أو إلى السحرة؛ ممن نزل به بلاء فأفلح، لم يرجع أحد إلا بخيبة، وازداد عليه بلاؤه، وتضاعف، وصار الواحد من هؤلاء يخرج من لون من ألوان هذا البلاء، ويدخل في ألوان أخرى متتابعة، لا تنقضي، ولا تنتهي، ويتلاعبون بهم غاية التلاعب، ويدخلونهم في عالم من الأوهام، وقد سمعت أشياء لولا أني أعرف هذا المتكلم المتحدث معرفة تامة منذ نعومة أظفاره لقلت: إن هذا من الخيال، يتحدث عن أشياء من أحوال هؤلاء الجن الذين زعموا أنهم جاءوا من أجل حمايته، فأوهموه بأوهام، وأن جسمه مخروق، وأنه عرضة لكل آسر وكاسر ممن يحتفّ به، أو يمر به ولو عرضًا من الجن، والشياطين، فيدخلون بهذا الجسد، فهو عرضة على الدوام؛ إذًا لا بدّ له من حماية، ويزعم بعض هؤلاء - ولربما جاءوا بزعمهم عن طريق بعض من يذهب إليهم ممن يدعون الرقية -، فيقولون: أنت تحتاج إلى حماية، وهؤلاء من المسلمين، فيبقون معه سنوات، ويوهمونه بأشياء، ويرى أنه يخوض معارك وقتالاً، وأن بيده سيفًا ضاربًا، وأنه يقتل من المردة، والكفار من الجن، ويخوض معارك وهو جالس في المسجد، أو جالس في بيته، أو يأكل، أو يشرب، قلبه وعقله في عالم آخر تمامًا، معارك يخوضها، ويوهمونه أنه صار عنده من القُدر، والإمكانات، والقوة؛ ما لا يوجد عند أحد منهم، وأن هذا من نصر الله، وفتحه عليه، فيدخل في عالم، وهكذا كلما ذهب إلى واحد من هؤلاء المضللين ممن يدعي الرقية، وأنا لا أعني الذين يرقون أنهم كذلك، لكن يوجد من الناس من يتعامل بهذه الأمور، فلا يزيده هذا إلا ضلالاً، حتى إن أحدهم لما تعب، وبقي على هذه الحال أكثر من خمس عشرة سنة وهو يدخل في بلاء، ويخرج إلى بلاء - نسأل الله العافية -، فجاء مرة، وقال: أنا أريد أن أسمع شيئًا أقف عنده، قلت له: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان:58] ولا تلتفت إلى شيء سواه، قال: هم معي الآن سبعة، ويسمعون، وإن شئت تحدثوا الآن، يزعمون أنهم يحمونه، أو هو هكذا يتصور، وما حصلت له هذه الحماية أصلاً، فهؤلاء الشياطين، والجن؛ قد يضللون الناس بأمور كثيرة جدًّا، ويوهمونه أنهم من المسلمين، فيتلاعبون به، فهذا الذي يتعلق بغير الله من هؤلاء الشياطين ونحو ذلك؛ لا يزيده ذلك إلا رهقًا، فهذا المعنى على هذا الوجه، وحينما يستعيذ بهم هو يزداد كفرًا، ولذلك كما سبق في بعض المناسبات أن هؤلاء الشياطين لربما يُسقطون الحمل - بإذن الله - حتى تلجأ هذه المرأة إلى الذهاب إلى السحرة، والكهنة؛ ونحو ذلك، وتتعاطى ألوانًا من الشرك كالذبح لغير الله، أو بعقد التمائم، ونحو ذلك التي لربما يزعمون أنها من القرآن، وقد أريتُ الإخوان - في بعض المناسبات - في دروس التوحيد قديمًا في حدود سنة 1404هـ أو 1405هـ، حلًّا، جئنا بتمائم، جميع هذه التمائم تقريبًا - جاء بها الإخوان من بيوتهم، من جداتهم - كانت أسماء شياطين، واستعانة بشياطين، وفي تعليق على فتح المجيد بحدود سنة 1423هـ جئنا بكيس كبير؛ جاء به أحد الإخوان فيه مئات التمائم، وفتح منها الكثير كلها أسماء شياطين، فهؤلاء زادوهم رهقًا، حتى إني قلت مرة لأحد هؤلاء وله أخ قد ربط تميمة، قلت له: هذه فيها أسماء الشياطين، وهذا مما يخالف التوحيد، وأعطيته بعض هذه الأوراق التي حُلت من تلك التمائم، وفيها أسماء الشياطين، ورسوم، ورموز، قلت من أجل أن يقنع أهله؛ يقول: ما وقفت عند باب البيت إلا وأخي يصيح، ويهرول، وينزل جريًا: هات الذي معك، أخرج الذي معك، يعني في هلع، أخوه كان به مس من الجن، فشعر بهذا، وانزعج، وأخوه لم يدخل البيت بعدُ، فجاء إليه يطالبه بإخراجها، أو بإتلافها، وأن لا يدخل بها بيتهم، فزادوهم رهقًا يتلاعبون بهم.
وكما سبق في أثر ابن مسعود - في بعض المناسبات - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الرقى، والتمائم، والتِّوَلة؛ شرك، قالت - أي امرأة ابن مسعود -: قلت: لم تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكَنَتْ؟ فقال عبد الله: "إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كَفّ عنها"[1] هكذا، فهذا باب واسع، الطريق هو التوكل على الله ، والثقة به، والاعتماد عليه: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [الأنعام:17] فلا يتعلق الإنسان بالمخلوقين، ولا يلتفت إليهم، فيقوى يقينه، فيفر منه الشيطان، إذا لقيه في طريق سلك فجًّا آخر[2] كما وقع لعمر وأرضاه.
وهذا معنى، إذًا قطع الطريق على الشياطين بحيث لا يلتفت إليهم؛ لا إلى وساوسهم، ولا إلى خواطرهم، حتى الوساوس، والخواطر إذا فُتح الباب تلاعبوا به في الطهارة، في صلاته، في طلاقه، في معاملته، في علاقاته، حتى يصير في حال يرثى لها، فلا يُفتح هذا الباب، باب المخاوف، وما يلقيه في قلبه من الظنون الكاذبة، كل ذلك ما يحصل به من تعظيم أوليائه في نفوس أهل الإيمان فيخافونهم: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [آل عمران:175] يعني يخوفكم من أوليائه، فيضخمهم، ويعطيهم هالة كبيرة، فتخافونهم، فهذا كله من عمل الشيطان.
وهذا معنى، والمعنى الآخر عكسه وهو: أن استعاذة هؤلاء الإنس بهؤلاء الجن زادت الجن طغيانًا، وتيهًا، وكبرًا، وتعاظمًا، فقالوا: سدنا الإنس، والجن، ها هم يخافون منا، فالقول الأول: أن الجن زادوا مَن تعوذ بهم من الإنس رهقًا، هذا قال به جماعة، كما نقله الحافظ ابن كثير، وما لم ينقله: هذا حاصل قول أبي العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد، وهو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن الإنس زادوا الجن الذين استعاذوا بهم تيهًا، وكبرًا، وتعاظمًا، قالوا: سدنا الإنس، والجن.
وعلى القول الآخر: أن الجن زادوا هؤلاء الإنس كفرًا، أو خوفًا، فهذا قال به أيضًا جماعة كمجاهد، وقتادة.
من قال: إن المقصود زادوهم كفرًا - يعني زادوا الإنس - فمعنى ذلك بسبب أنهم استعاذوا بغير الله ، واعتمدوا على غيره، وتوكلوا على غيره.
وخوفًا: هذا واضح.
والرهق في كلام العرب بمعنى: الإثم والغشيان وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ [يونس:26] يعني لا يغشاها ذلك، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج:44] يعني تغشاهم ذلة، فهنا الإثم وغشيان المحارم يقال له: الرهق، هذا الذي أيضًا قاله ابن جرير - رحمه الله -، وابن جرير - رحمه الله - في هذا الموضع يفسر ذلك: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا يعني زاد الجنُّ الإنسَ الذين استعاذوا بهم إثمًا، واستحلالاً لمحارم الله - تبارك وتعالى - يعني أن الجن زادوا الإنس، وذكرنا: أن هذا هو الذي اختاره أيضًا ابن القيم - رحمه الله -، وهذا ظاهر كلام ابن كثير، ولو قيل: إن الآية تحمل على المعنيين باعتبار أن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ويدخل في ذلك ما يتصل باحتمال عود مرجع الضمير أي: ليس الأقرب على المعنيين، فهذا له وجه، فيكون ذلك واقعًا من الطرفين، والله أخبر في سورة الأنعام: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128]، وذكرنا هناك وجوه الاستمتاع من الطرفين، الجن يزدادون تيهًا، وكبرًا، وتعاظمًا، ويحصل لهم انتفاع بما يذبح لهم، وما يقدم من القرابين، والنذور ونحو ذلك، والإنس يحصل لهم بسبب هذا أمور من مصالح متوهمة من وجود ضالة، أو نحو ذلك مما يطلبون به حماية حينما يستعيذون من سفهاء الجن أو نحو ذلك، لكن الثمن الذي يدفعونه أكبر، وأعظم: الدين، والإيمان، بالإضافة إلى الرهق الذي يحصل لهم؛ كخوف دائم.
ومن فسره بالخوف فهو معنى صحيح أيضًا: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا خوفًا.
هكذا كل من خاف من غير الله تبقى هذه المخاوف تلاحقه في كل مكان، ولو كان هذا الشيء الذي يخافه صغيرًا، ولو بقي أحد من الناس منفردًا في مكان خالٍ، أو مظلم أو نحو ذلك، لو سمع صوتًا، ولو كان صوت صبي يتوقع أنه من الجن لم ينم تلك الليلة، ولوقف من رأسه كل شعرة أليس كذلك؟! ولو أنه وجد صبيًّا صغيرًا لم يجاوز السنتين من الإنس، هذا ماذا يمكن أن يفعل؟
فهذا الصغير من الجن أضعف من هذا الذي يراه من الإنس، فلو كانت القضية معكوسة أن الجن والشياطين يخافون من صبياننا الصغار ممن لم يبلغوا العامين إذا سمعوا مجرد صياحه، فتنخلع قلوبهم لذلك، لو علمنا بهذا لتسلط سفهاؤنا لو كانوا يستطيعون إليهم سبيلاً، ولتلاعبوا بهم، أليس كذلك؟
فحينما يَعرفون، أو يرون، أو يشاهدون - لأنهم يروننا، ونحن لا نراهم - هذا الخوف منهم، ولو كان من أصغر صغير فيهم، وأضعف ضعيف، تنخلع القلوب من الخوف، فهذا يزيدهم تعاظمًا، وتلاعبًا بالإنس، فهذا الذي يجرئهم، فإذا وجدوه ثابت الإيمان، قويَّ اليقين؛ فإن ذلك لا شك أنه يكون سببًا لفَرقهم، وبعدهم عنه - والله المستعان -.
الإنسان أحيانًا يخاف من أشياء صغيرة لا أثر لها، ولا قيمة، لا تؤثر، أشياء صغيرة قد يخاف من حشرة لا تؤذي، فتجده في حال من الرعب منها، والهلع، ويقوم بتصرفات، ويغلق الأبواب؛ لئلا تصل إليه، ولو علمتْ هذه الحشرة أن هذا يخاف منها لفعلت به الأفاعيل، لكن هي في حال من الخوف، ما علمت أنها هي المخوفة.
- رواه أبو داود، كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، رقم (3883)، وأحمد في المسند، برقم (3615)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن أخي زينب، لكنه متابع"، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (4552).
- انظر الحديث في البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم (3294)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر ، رقم (2396).