الثلاثاء 27 / ذو الحجة / 1446 - 24 / يونيو 2025
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالًا وَجَحِيمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ولهذا قال هاهنا: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا [سورة المزمل:12] وهي القيود، قاله ابن عباس، وعكرمة، وطاوس، ومحمد بن كعب".

بعضهم يقول: مهلهم قليلًا فأعاجلهم بالعقوبة، فوقع لهم ذلك يوم بدر، ولا يختص بهذا؛ لأن الله قال بعده: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا فيكون مهلهم قليلًا أي أن الدنيا هي مدة يسيرة بالنسبة للآخرة، متاع قليل وبعد ذلك يرتحلون إلى دار الآخرة، مهلهم قليلًا فتأتي الآخرة فيعذبون بهذا العذاب إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا هذا التفسير أحسن من تفسير من قال بأنه في يوم بدر - والله أعلم -.

إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا قال: وهي القيود، والأنكال جمع نِكل بكسر النون وهي القيود التي توضع بالأيدي، والأرجل، فهؤلاء يقيدون في النار، وهذا التقييد حينما يقيدون لا يقيدون خشية الهرب، فهم لا يستطيعون الهرب، وإنما يكون ذلك من جهة الإذلال، والإهانة لهؤلاء، فإن وضع القيد باليد والرجل لا شك أن فيه من الإذلال، والإهانة، والأذى النفسي ما فيه، وهو شيء مشاهد، تجد الرجل المتنعم المترف الذي يأمر، وينهى؛ بعد مدة يوضع الحديد في يده فهذا لا شك أنه إهانة، وإذلال؛ مع أن الذي فعل ذلك له يعلم أنه لن يفر، ومثل هذا لن يفر، فلم يعتد على الهرب، وطرق التخلص وما أشبه ذلك.

"وقوله تعالى: وَجَحِيمًا وهي السعير المضطرمة.

وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ [سورة المزمل:13] قال ابن عباس: "يَنشَب في الحلق فلا يدخل، ولا يخرج"".

وطعامًا ذا غصة يدخل فيه ما قاله السلف: الزقوم وما إلى ذلك، ذا غصة بمعنى أنه يغص به آكله فيتوقف فلا ينزل، ولا يخرج، أو يرتفع، يتوقف فيكون شجناً في حلوقهم.

والأنكال بعضهم فسرها بألوان العذاب قال: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا أي: أنواعًا من العذاب ننكل بهم.

والجحيم قال: هي السعير المضطرمة، وبعضهم يقول: كل نار في مَهْواة فهي جحيم، وعلى كلٍّ الجحيم اسم من أسماء النار - أعاذنا الله وإياكم منها -.

"وَعَذَابًا أَلِيمًا ۝ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ [سورة المزمل:13-14] أي تزلزل، وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا.

يقول: وَعَذَابًا أَلِيمًا ۝ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ يوم تتعلق بماذا مما ذكر من الألفاظ قبلها؟

يمكن أن تعود إلى ذرني أي ذرني يوم ترجف الأرض، والجبال، وهذا فيه بُعد وإن قال به بعض المفسرين، ويمكن أن تكون متعلقة بالاستقرار المفهوم من قوله: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا إن لدينا في الدنيا أو يوم ترجف الأرض، والجبال؟ يوم ترجف الأرض، والجبال، وهذا بعد النفخة الثانية، متى ترجف الأرض، والجبال؟ في النفخة الثانية على المشهور من أقوال المفسرين والراجح، وهناك من قال: إنها النفخة الأولى، ولكن هذا قول بعيد، وبعضهم يقول غير هذا.

ويمكن أن يكون التقدير: إن لدينا عذابًا واقعًا يوم ترجف الأرض، والجبال، والمقصود من هذا كله هل قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ متعلق بما قبله أي ذرني يوم ترجف، لدينا عذابًا أليمًا واقعًا يوم ترجف، أو أنه جملة جديدة يخبر الله فيها عن أهوال يوم القيامة ابتدأ بكلام جديد يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي واذكر يوم ترجف الأرض مثلًا؟ هذا هو المقصود.

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ هنا سؤال: ترجف الأرض تضطرب، وتتحرك بقوة، والجبال أليست ملتصقة بالأرض؟ فإذا رجفت الأرض اقتضى ذلك أن كل ما عليها يضطرب، ويتحرك، كالخاتم في الأصبع إذا حركت الأصبع ما الذي يحصل للخاتم؟ يتحرك؛ فإذا رجفت الأرض رجفت الجبال، فلماذا خص الجبال؟

يمكن أن يقال: خصّ الجبال؛ لأن الاضطراب في الأجسام العلوية المشاهدة أعظم أو أكثر وقعًا أو وضوحًا من حركة الأرض، الجبال هذه الرواسي الضخمة المرتفعة تتحرك أمام الناس، ترجف الأرض، والجبال، وهذا يكون في النفخة الثانية.

"وقوله تعالى: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا أي: تصير ككثبان الرمل بعدما كانت حجارة صماء.

الكثيب معروف وهو كثيب الرمل فتكون الجبال بدلاً من كونها صخوراً قوية صلبة تكون كثيبًا مهيلًا، رملًا مجتمعًا يقال له: الكثيب الكثير.

عرفتُ ديارَ زينبَ بالكثيبِ كخطّ الوحيِ في الرقّ القشيبِ

مهيلًا يعني إذا حركت أسفله انهال أعلاه، بمعنى أنه رمل سائل، السائل ليس معناه السائل الذي فيه رطوبة، وإنما رمل يتهايل، إذا حركت بدأ بالنزول، يتهاوى، غير متلبد وثابت، فهذا هو الكثيب المهيل، تتفتت.

"ثم إنها تُنسف نسفًا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا [سورة طه:106-107] أي واديًا، وَلَا أَمْتًا أي رابية، ومعناه لا شيء ينخفض، ولا شيء يرتفع".