الأربعاء 28 / ذو الحجة / 1446 - 25 / يونيو 2025
فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَٰهُ أَخْذًا وَبِيلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار قريش - والمراد سائر الناس -: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [سورة المزمل:15]".

فيقول المؤلف - رحمه الله -: ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار قريش، وذلك أنْ أخَذَه من قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ، وحينما نزلت هذه السورة نزلت في مكة في أوائل ما نزل، وكان النبي ﷺ يخاطب قريشًا، فبهذا الاعتبار قال من قال من المفسرين ومنهم الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: إن هذا الخطاب موجه لقريش، وبعضهم قال: هو موجه للعرب باعتبار أن النبي ﷺ حين بعث كان في جزيرة العرب، فكان الذين سمعوا دعوته في أول الأمر هم العرب، فيكون المعنى إنا أرسلنا إليكم أيها العرب بعد الجهالة، والانقطاع من الوحي، والرسالة رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ، ولما كانت بعثة النبي ﷺ عامة للأحمر والأسود قال الحافظ ابن كثير وغيره: والمراد سائر الناس، أي: أنه وجه الخطاب بهذه الصيغة التي يخاطب بها قريشًا أو العرب باعتبار أن النبي ﷺ بين أظهرهم، ولما كانت دعوته عامة فالخطاب يشمل الجميع، جميع الناس؛ لأن النبي ﷺ أرسل إليهم جميعًا، فالعرب، والعجم؛ كلهم داخلون في أمة الدعوة من أمة محمد ﷺ، والأدلة على ذلك كثيرة: ما من يهودي، ولا نصراني؛ يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[1]، فهذا وجه قول ابن كثير إنه خاطب قريشًا، ومن قالوا: الخطاب للعرب قالوا: لأن النبي ﷺ بعث من العرب فكان بين أظهرهم، كما قالوا في قريش، وبعضهم قال: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ أي إلى الناس عامة، ولا منافاة بين هذه الأقاويل الثلاثة، فكلهم متفقون على أن الخطاب يشمل جميع الناس؛ لأن النبي ﷺ شاهدٌ عليهم، وأرسل إليهم إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ فكل ذلك متحقق في سائر الناس من العرب، والعجم.

"رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ أي بأعمالكم، كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [سورة المزمل:15]".

كما قال الله -: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ [سورة الفتح:8] يعني يا محمد - عليه الصلاة والسلام - شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وقال في حق هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عدولًا خيارًا؛ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] فالنبي ﷺ شهيد على هذه الأمة، يشهد عليها بالبلاغ، أنه بلغ، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [سورة الأعراف:6-7].

وهو شاهد عليهم - عليه الصلاة والسلام - بأعمالهم، كما أن هذه الأمة تشهد على سائر الأمم بما بلغها بطريق الوحي عن بعث الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وما قالوا لقومهم، وما أجابوهم، فهذا طريق ثابت محقق لا شك فيه، ومن ثَمّ فإنهم يشهدون وإن لم يكونوا عاصروا تلك الأمة.

"كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ۝ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [سورة المزمل:15-16] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والثوري: أَخْذًا وَبِيلًا [سورة المزمل:16] أي شديدًا".

قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يمكن أن يكون المراد بذلك التشبيه، من كاف التشبيه وهي بمعنى مثل، ويمكن أن تكون دالة على التحقيق أرسلنا إليكم رسولًا كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا، فأرسله إرسالًا محققًا كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، وهنا سؤال وهو أن الله أرسل إلى سائر الأمم الأنبياء، والمرسلين، فلماذا خص فرعون؟ لماذا لم يقل: كما أرسلنا إلى الأمم رسلًا؟

يمكن أن يقال: لأن ذلك مشتهر عند المخاطبين، ما أتاهم برسول لم يسمعوا خبره، وإنما جاءهم برسول قد عرفوا خبره، وما وقع له مع فرعون، فخطابهم بما يعرفون، وهذا كثير في القرآن؛ ولهذا لما خاطبهم الله  عن دلائل القدرة، والتوحيد قال: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ [سورة الغاشية:17-18] إلخ، ولم يخاطبهم بأمور قد تكون أعظم من الإبل كالفيل مثلًا، خلْق الفيل أضخم وأكبر من خلق البعير، ولكن الذي ذكره العلماء أن هؤلاء إنما عرفوا البعير ولم يعرفوا الفيل، والقرآن قد خاطب قوماً من الأميين فخطابهم بما يعهدون؛ ولهذا لما ذكر نعيم الجنة ما ذكر لهم ألوانًا من الفواكه المستلذة الموجودة في غير بلادهم، هناك فواكه جيدة للغاية في مشارق الأرض، ومغاربها، لكن ذكر الله لهم النخيل، والأعناب؛ لأنها الموجودة في بيئتهم، وذكر لهم الطلح المنضود، فعلى التفسير المشهور للطلح هو شجر الطلح المعروف في بلاد الحجاز وفي السراة وغيرها، هذا الشجر المليء بالشوك الذي لا يكاد ينتفع به، فذكره الله في نعيم الجنة، ووجّهه بعض أهل العلم بأن بلاد العرب لما كانت حارة حرارة تصلي الطير؛ لما كانت بهذه المثابة فهم أحوج ما يكونون إلى الظل، ويعرفون قيمته، وقدره؛ ذكر لهم الطلح؛ لأنه الشجر الذي كانوا يستظلون به، ولا يستطيع الإنسان أن يجلس تحته حتى يقوم بعملية تنظيف المكان من الشوك، ولن يسلم، فذكر لهم طلحًا غير معهود لديهم، فهو منضود قد قطع شوكه، وهذا لا يعهدوه، وإذا سمعوا هذا حركوا أنفسهم، مثلما أن العطشان إذا رأى الماء ولو في الدعاية تحركت نفسه، وإذا رأى الطعامَ الجائعُ تحركت نفسه، وهكذا.

أو أن الطلح هو الموز، منضود أي أنه مركوم بعضه على بعض، فالمقصود أن القرآن خاطبهم بما يعهدون، وهذه القضية تراعى في التفسير، لا تُحمل معاني القرآن على أشياء غير معهودة للعرب، ففي قوله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [سورة الزلزلة:7] لا تحمل الذرة على الذرة التي في اصطلاح المعاصرين، إنما صغار النمل فقط.

كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني يمكن أن يكون ذكر لهم مثالًا، وهذا جواب آخر لسؤال: لماذا خص فرعون؟، فيمكن أن يذكر لهم مثالًا بارزًا لأعلى درجات العتو، والجبروت، والكبرياء، والظلم، والعدوان حتى ادعى الربوبية، ذكر لهم أبرز صورة في الطغيان على الله ، وعلى الخلق.

جواب ثالث: يمكن أن يقال: وذرني والمكذبين المترفين أولي النعمة، وفرعون يعتبر رأساً في هؤلاء من أولي النعمة من المتنعمين المترفين، ماذا كان يقول عن موسى ﷺ؟، يحتقره أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52]، وكان يقول لهم: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] تحت قصوره، فبناها في مواضع لا يحتاج معها إلى نقل الماء، ثم يكون حولها من الجمال، والمناظر، والبهاء، تجري الأنهار من تحت قصوره فلا شك أن هذا يتنافس عليه الناس إلى اليوم.

"فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [سورة المزمل:16] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والثوري: "أَخْذًا وَبِيلًا أي شديدًا"".

الوبيل: الشديد، الغليظ، الثقيل، على هذا تدور معاني هذه الكلمة، وربما تكاد تنحصر فيها، أو ترجع إليها أَخْذًا وَبِيلًا أي شديدًا، ومنه الوابل أَصَابَهَا وَابِلٌ [سورة البقرة:265]، والوابل هو المطر الشديد، فهذه الأرض من جودتها أنها يكفيها الطلّ، فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ يسير جدًا من المطر، أو الرطوبة، أو الرذاذ، أو نحو هذا يكفيها فتخرج ألوان الثمار، فهذا هو الوابل المطر الشديد، وكذلك أيضًا يقال: المرعى الوبيل هو المرعى المستلذ الذي تستلذه الماشية والدواب، ولكنه مرعى وخيم فتهلك، مرعى وبيل يعني يحتوي على نباتات سامة فيهلك الدواب.

"أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [سورة النازعات:25]، وأنتم أولى بالهلاك، والدمار؛ إن كذبتم رسولكم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران، ويُروى عن ابن عباس، ومجاهد".
  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، برقم (153).