الأربعاء 28 / ذو الحجة / 1446 - 25 / يونيو 2025
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيبًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورة المزمل:17] يحتمل أن يكون يومًا معمولًا لـتتقون كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود".

إذا قلنا: إنه يكون معمولًا لـ تتقون - إذا سمعت هذا مثلًا أو قرأته في التفسير - فإن هذا يعني أن يركب الكلام هكذا: فكيف تتقون يومًا يجعل الولدان شيبًا؟، وجملة إِن كَفَرْتُمْ صارت جملة اعتراضية فيكون تركيب الكلام: فكيف تتقون يومًا؟، واليوم لا يُتقى؛ لأنه ظرف زمان، وإنما يُتقى ما فيه من الأهوال، والأوجال، كيف تتقون أهوال يوم يجعل الولدان شيبًا؟، هذا إذا قلنا: إنه معمول لـتتقون، وإذا قلنا: إنه يرجع إلى كفرتم يصير المعنى: فكيف تتقون إن كفرتم يومًا، كفروا ذلك اليوم، كيف تتقون العذاب؟ كيف تكونون محققين للتقوى إن كفرتم يومًا، إن كفرتم الآخرة، إن كفرتم يوم القيامة؟ لكن هذا التقدير الثاني بعيد، وليس هو المتبادر من الآية، فيمكن أن يكون المعنى هكذا - والله أعلم -: فكيف تتقون يومًا إن كفرتم يجعل الولدان شيبًا؟، فتكون إن كفرتم جملة معترضة.

"كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود: فكيف تخافون أيها الناس يومًا يجعل الولدان شيبًا".

كيف تتقون يومًا هذا التفسير هو الأجود، ويدل عليه قراءة ابن مسعود فكيف تخافون؛ لأن كلمة تتقون أصلها أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية، والسلف كما قلنا لكم يفسرون بالمقارب، وهو فسره بالخوف، بمعنى أن الخوف ليس هو حقيقة معنى التقوى، فقال: فكيف تخافون أيها الناس يومًا، والقراءة الأحادية كقراءة ابن مسعود هذه لا يُقرأ بها، ليست متواترة، وإنما القراءة الأحادية يستفاد منها ثلاث فوائد:

1- تفسر بها القراءة المتواترة كما هنا.

2- ويعمل بها في اللغة.

3- ويحتج بها في الأحكام تنزيلًا منزلة الحديث النبوي إذا صح الإسناد، فهذه القراءة الأحادية ترجح أحد القولين، والآية - هذه قاعدة أخرى - قد تحتمل معنيين فأكثر ويكون في الآية أو في خارجها قرينة تدل على رجحان أحدهما فتحمل الآية عليه كما هنا، الآن هذا مرجح من الخارج ليس من الآية قراءة ابن مسعود: فكيف تخافون أيها الناس إن كفرتم يومًا.

"ويحتمل أن يكون معمولًا لكفرتم، فعلى الأول: كيف يحصل لكم الأمان، أو كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم؟".

هذا لأن أهل الإيمان هم من فزع يومئذ آمنون لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [سورة الأنبياء:103]، وأما الكفار فإنهم يكونون في غاية الخوف، والهلع، والذلّ، والمهانة.

"وعلى الثاني: كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة، وجحدتموه؟، وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى - والله أعلم -".

كيف تكونون محققين للتقوى وأنتم تكفرون بيوم القيامة؟ كيف تتقون إن كفرتم يومًا، إن كفرتم يوم القيامة؟ هذا بعيد.

بعض أهل العلم يرى أن المحمل الثاني قبيح، ولا يليق حمل الآية عليه؛ لأنه مستنكر بعيد، لكن عبارة ابن كثير لطيفة يقول: والمعنى الأول أولى.

"ومعنى قوله: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا أي من شدة أهواله، وزلازله، وبلابله، وذلك حين يقول الله - تعالى - لآدم: ابعث بعث النار".

الوليد هو حديث العهد بالولادة، من كان حديث العهد بالولادة يقال له: وليد، يعني الصغير جدًا، والصغير جدًا أبعد ما يكون عن الشيب، فإن الشيب لا يحصل عادة إلا بعد التقدم في العمر، وعلى أحد الوجهين في التفسير وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [سورة فاطر:37] يعني الشيب، فإذا لاح الشيب في مفرق الإنسان فمعنى ذلك أنه ينبغي عليه أن يحسب حساباته؛ لأنه بدأ في العد التنازلي، وذلك أن الشيب إنما يحصل لضعف الحرارة الغريزية، وإنما يحصل ذلك بعد ضعف الإنسان، فهذه التحولات التي تحصل في باطن الإنسان يحصل من جرائها العجز، والضعف، فتتغير أحواله، فيبدأ لون الجلد يتغير، تذهب النضارة، ويذهب رونق الشباب، ويبدأ يضعف سمعه، وربما بصره، وتضعف قواه، ومداركه حتى لربما صار لا يعقل، يرجع إلى أرذل العمر، وإذا اكتمل الإنسان، واستوى في الأربعين؛ بعد ذلك تبدأ القضية تنعكس، هو في طور نمو منذ أن ولد إلى الأربعين، ثم بعد ذلك يبدأ طور النزول بحسب ما يمتد به العمر، هكذا هذه الحياة، فالشيب إنما ينتج عادة ويحصل بسبب ما ذكرتُ، ومن ثَمّ ما الذي يحصل لهذا الصغير الوليد بسبب شدة الخوف إذا قلنا: إن هذا على ظاهره وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه، يتحول الوليد إلى ما ذكر الله من الوصف، يكون شائبًا رأسه أبيض من شدة الفزع، وذلك أن الإنسان في حالة الفزع الشديد، والخوف الشديد؛ تخور قواه فلا تحمله أقدامه، تخونه فلا يستطيع المشي، والحركة، والذهاب، والانطلاق من شدة الخوف، هذا معروف، يجثو الإنسان في مكانه إذا اشتد الخوف، وعظم، ويحصل له أيضًا من الأمور الباطنة أشياء كثيرة جدًا، فتنطفئ حرارته الغريزية، فينعكس أثر ذلك فيعود الشعر الأسود إلى حال من البياض، والعلماء يشرحون كيف يتحول الشعر الأسود إلى أبيض، ويربطون ذلك بالضعف الذي يحصل في داخل الإنسان؛ ولذلك يقولون: من كثرت همومه، وأحزانه؛ كان الشيب إليه أسرع؛ لأن الشيب يحصل بسبب هذا الضعف الذي يكون في باطنه، إذا وجدت عنده الهموم، والآلام الكثيرة أو الفزع، وهذا مشهور عند العامة إلى اليوم يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورة المزمل:17] وكما قيل:

والهمُّ يَخترمُ الجسيمَ نحافةً وَيُشيبُ نَاصِيَةَ الصّبيّ وَيُهرِمُ

يعني البدين يصبح نحيفًا أيًّا كان هذا سبب هذا الهم، وكما قيل في الحبّ:

وللحبِّ آياتٌ تَبِين في الفتى شحوبٌ وتَعْرَى من يديه الأصابعُ

تبدو عظام الأصابع في اليد بعدما كانت ممتلئة، وللحب آيات تَبِين في وجه الفتى، وجهه شاحب، وتعرى من يديه الأصابع، فلا يكون عليها اللحم، ولا تكون ممتلئة، فيكون شاحبًا نحيلًا، وكذلك الهموم والآلام

والهمُّ يَخترمُ الجسيمَ نحافةً ويُشيب ناصيةَ الصبيِّ ويُهرمُ

هذا هو الشاهد كما قال الآخر:

دهتنا أمورٌ تُشيب الوليدَ ويَخذل فيها الصديقَ الصديقُ

وسمعت أو قرأت في الحرب التي كانت في البوسنة أشياء عجيبة تشبه هذا، كان الصرب يأخذون الإنسان وهو حي، ويضعونه في رافعة، ثم يضعون قدرًا كبيرًا مليئًا بالزيت المغلي يغلي على النار ثم يدخلونه فيه، ثم يخرجونه تلوح عظامه، ليس فيه إلا العظام تلوح، ليس فيه جلد، ولا لحم، ولا عصب، يدخلونه حيًا فيخرج عظاماً، فبعض من شاهد هذا أو بعض من أُخرج أيضًا من الأنقاض، ومن الأطفال الصغار؛ شوهد أن أحدهم كان قد تحول رأسه إلى بياض من شدة الهول.

"وذلك حين يقول الله - تعالى - لآدم: ابعث بعث النار، فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة[1]".

النبي ﷺ أخبرنا أن الله يقول لآدم: يا آدم أخرِجْ بعث النار، وهذا العدد من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون معناه أنه ما ينجو إلا واحد، فعند ذلك يشيب الوليد، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [سورة الحج:2] في ذلك الموقف.

  1. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الحج، برقم (3168)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ".