"نسخ وجوب قيام الليل وذكر أعذاره:
ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ [سورة المزمل:20] أي: تارة هكذا، وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل؛ لأنه يشق عليكم".
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وفي قراءة أخرى متواترة أدنى من ثلثي الليل ونصفِهِ وثلثِهِ فعلى القراءة الأولى أدنى من ثلثي الليل ونصفَهُ وثلثَهُ كيف يكون المعنى؟ يكون المعنى هكذا: أن الله يعلم أن نبيه ﷺ يقوم أدنى أي أقل من ثلثي الليل، ويقوم نصفَه، فنصفه مفعول به منصوب، أدنى من ثلثي الليل، ويقوم نصفَه، ويقوم ثلثَه، هذا على قراءة النصب، يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وتقوم نصفَه، وتقوم ثلثَه، وعلى قراءة الجر: يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، ونصفِهِ، وثلثِهِ، فيكون المعنى: تقوم أقل من ثلثي الليل، وأقل من نصفه، وأقل من ثلثه، لماذا يحصل ذلك؟
لأنه يصعب أن يضبط مقادير الليل؛ لهذا قال: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ وليس عندهم ساعات، ويختلف هذا من الشتاء إلى الصيف، وكون الإنسان يرقب ساعات الليل بالنظر إلى علامات في السماء مثلًا أمر يصعب على الإنسان خاصة من يصلي في داخل بيته، تصور بين كل مدة وأخرى يخرج وينظر، في الشتاء، وفي الصيف تارة يكون الليل طويلاً، وتارة يكون الليل قصيراً، فينكشف الأمر عن أن الإنسان قد لا يقوم إلى حد الثلث، بل يقوم أقل من الثلث، لا يضبط التقدير، وتارة يزيد إلى النصف، وتارة يبلغ الثلثين، وتارة أقل، وكذلك بحسب ما يعتور الإنسان من الأمور العارضة كالسفر، والمرض، والتعب، وغلبة النوم وما أشبه ذلك مما يعتري الإنسان مع ثقل قيام الليل أصلًا، فأنزل الله في هذه الآيات التخفيف أي تارة هكذا، وتارة هكذا.
والقراءتان إذا كان لكل واحدة معنى، وهنا كل قراءة لها معنى أو المعنى واحد؟ فماذا نقول هنا ما هي القاعدة؟ إذا كان في الآية أكثر من قراءة، وكل قراءة لها معنى؛ فالقراءتان تنزل منزلة الآيتين، فصارت المعاني: أنه يقوم أدنى - أقل - من ثلثي الليل، ويقوم نصفه، ويقوم ثلثه، والقراءة الأخرى: يقوم أقل من ثلثي الليل، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، وكل ذلك واقع فلا إشكال.
في قوله: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يوجد احتمال غير ما ذُكر يعني هنا قال: يقدر الليل والنهار أي تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا، يعني أن الله يجعل ذلك متفاوتًا يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [سورة الزمر:5] على أحد التفسيرات فيها، فالحاصل أن ذلك يتفاوت في الشتاء، والصيف؛ وما إلى ذلك، وتحتمل معنى آخر وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بمعنى أنه يعلم مقاديرها على الحقيقة، علم أن لن تحصوه أي أنتم لا تطيقون هذا على وجه الدقة في صيفكم، وشتائكم، وكل أحوالكم في الثلث، والنصف وكذا، فيقع منكم مثل هذا النقص، والزيادة.
التوبة أصلها الرجوع، تاب عن كذا أي رجع عنه فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: عاد عليكم بالتخفيف، أو عاد عليكم بالعفو، والمسامحة، ولم يؤاخذكم بسبب هذا التفاوت في قيامكم، وما يحصل فيه من النقص في بعض الحالات أو الأحيان فَتَابَ عَلَيْكُمْ.
الآن فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ سبق أن بعض أهل العلم يقول: هذا هو الناسخ، ومن قالوا: إنه يجب قيام قدر من الليل ولو أن يوتر الإنسان أخذوه من هذا، قالوا: أولاً قال: قُمِ اللَّيْلَ [سورة المزمل:2]، ثم لما خفف قال: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ فما صار النسخ بالكلية لوجوب قيام الليل بل إلى المقدار السابق، والأرجح أنه نسخ الوجوب عمومًا، وبقي مستحبًا، والخلاف معروف في حق النبي ﷺ هل هو واجب في حقه أو أن ذلك أيضًا نسخ؟، فهم بعض أهل العلم من قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ [سورة الإسراء:79] أنه ليس بواجب، ليس بفريضة عليه - عليه الصلاة والسلام -، وبعضهم قال: هو فرض على النبي ﷺ وليس بواجب على الأمة، ولكن الخلاف هل هو واجب على النبي ﷺ أو لا؟ لكن هل يترتب عليه شيء بالنسبة إلينا نحن؟ هل ينبني عليه عمل؟ لا، ولذلك تضييع الوقت به، والانشغال به؛ ليس من صلب العلم، والمسائل التي لا ينبني عليها عمل بالنسبة إلينا لسنا مطالبين بالاشتغال بها، وإضاعة الأوقات بمناقشتها، وبحثها، وما أشبه ذلك؛ لأننا مطالبون بالعمل، فهذه تعتبر بحسبها، تارة تكون من مُلَح العلم كما يقول الشاطبي - رحمه الله -، وتارة تكون من فضول العلم؛ ما لها فائدة، ولا يترتب على هذا بالنسبة إلينا شيء.
الصلاة تارة يعبر عنها بالقراءة كما قال الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] المراد بقرآن الفجر القراءة في الصلاة قطعًا أي في صلاة الفجر، "مشهودًا" أي تشهده الملائكة، هذا معنى قرآن الفجر وليس التلاوة بالمصحف أو في غير المصحف، وهنا قاعدة وهي أنه إذا عبر عن العبادة بجزء منها فإن ذلك يدل على آكديّته، وأنه ركن فيها، والقراءة في الصلاة ركن، والقدر المجزئ من ذلك هو قراءة سورة الفاتحة.
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ الضرب في الأرض بمعنى المشي فيها، والتقلب للتجارات، وطلب الرزق، هذا معنى الضرب في الأرض لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] أي: لا يستطيعون تقلبًا فيها، وانتقالًا، ومشيًا، وسفرًا من أجل التجارة، هذا الضرب في الأرض.
هذه الآيات نزلت قبل فرض الجهاد، بل قبل شرع الجهاد، الجهاد شرع على مراحل، كان ذلك في المدينة فكان هذا قبله، ومع ذلك ذكره الله : عَلِمَ أَن سَيَكُونُ كانوا في مكة في وقت استضعاف، وفقراء.
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ السورة مكية فهذا يدل على أن الزكاة كانت واجبة في مكة، وهذا هو الأقرب لكن من غير تقدير، ومن غير تحديد للأموال التي تجب فيها الزكاة، فكان الإنسان يخرج في وقت الحصاد مثلًا شيئًا غير مقدر يعطيه الفقراء، وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] فهذا هو الأقرب، ولا داعي لحمله على محامل بعيدة وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ كأن يقال: هذه مدنية، أو أن هذه تتحدث عن أمر لم يقع مما نزل قبل شرع الحكم، أو أن الزكاة تفسر بمعنى آخر، هذا كله لا حاجة إليه، الزكاة فرض أصلها في مكة، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ هنا سؤال وهو: لماذا أمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكثيرًا ما يقرن بين الصلاة، والزكاة؛ في الأمر بهما، أو وعيد من تركهما، أو الثناء على أهلهما أو نحو ذلك، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162]؟ العبادات مالية وبدنية، ورأس العبادات المالية هو الزكاة، ورأس العبادات البدنية هو الصلاة، هذا جواب.
والجواب الثاني: أن سعادة العبد دائرة بين أمرين: حسن الصلة بالله ورأس ذلك الصلاة، والإحسان إلى الخلق ورأس ذلك يكون بالزكاة.
هذا يدل على أن قيام الليل غير واجب، فالذي سأل النبيَّ ﷺ عما افترض الله عليه أجابه دون أن يذكر له قيام الليل، والعلماء يحتجون كثيرًا بهذا الحديث على أشياء كثيرة، فمما يقولون: إنه لا تجب تحية المسجد مع أن النبي ﷺ قال: فلا يجلس حتى يصلي ركعتين[2]، ومع ذلك الجمهور يقولون: إنها غير واجبة، والنبي ﷺ قال للرجل أيضًا في يوم الجمعة وهو يخطب: أصليت ركعتين؟[3]، قال: لا، فأمره أن يقوم، ويصلي؛ مع أهمية الاستماع والإنصات للخطبة، فالجمهور يقولون: إنها غير واجبة لماذا؟ أوضح حديث يستدلون به هو هذا: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع كذلك صلاة العيدين، والخسوف، والكسوف، والاستسقاء، يقول كثير من أهل العلم: غير واجبة، ولكن الذين يقولون بوجوب بعض ذلك يقولون: ذكر له النبي ﷺ الذي يتكرر في اليوم والليلة، والمقصود أن الاستدلال بهذا أوضحَ بأن قيام الليل غير واجب؛ لأنه كل ليلة، إذا قالوا: إن العيد يحصل في السنة مرة، وإنما قصد له ما يتكرر؛ فهذا لا يقال في قيام الليل، فهذا من أوضح الأدلة على عدم وجوب قيام الليل.
وليس المقصود بقيام الليل أن ينام الإنسان ثم يقوم، لا، المقصود أن يصلي في الليل في أوله، أو في أوسطه، أو في آخره، وأدنى ذلك أن يوتر، وكلام أهل العلم معروف في هذا، والحنفية يسمون الوتر واجباً، والإمام أحمد يقول عمن واظب على ترك الوتر: إنه رجل سوء ترد شهادته.
"الأمر بالتصدق وعمل الخير:
وقوله تعالى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يعني من الصدقات؛ فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء، وأوفره؛ كما قال تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245]، وقوله تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ: أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر[4]، ورواه البخاري، ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي أكثروا من ذكره، واستغفاره في أموركم كلها؛ فإنه غفور رحيم لمن استغفره.
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، برقم (46)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم (11).
- رواه البخاري، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم (1167)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة في جميع الأوقات، برقم (714).
- رواه البخاري بلفظ: أصليت يا فلان؟، قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، برقم (930).
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما قدم من ماله فهو له، برقم (6442)، وابن حبان في صحيحه، برقم (3330)، وقال محققه الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".