"شرف قيام الليل:
وقوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [سورة المزمل:6]، وقال عمر، وابن عباس، وابن الزبير: "الليل كله ناشئة"، وكذا قال مجاهد".
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا عامة ما ذكره السلف يمكن أن يجمع في تفسير هذه الآية.
وكان الليل كله ناشئة؛ لأنه ينشأ بعد النهار، ففي أي ساعة صليت على هذا القول سواء كان ذلك بعد نوم، أو لم يسبق بنوم؛ صليت العشاء، وقمت تصلي؛ فهذا من ناشئة الليل، كل ساعات الليل ناشئة.
الآن نشأ إذا قام من الليل، وفي رواية عن مجاهد: "بعد العشاء"، ما الفرق بين هذه الأقوال الثلاثة؟ الآن إذا تأملت الأقاويل - كل ما قيل فيها - أرجِعْها إلى أصول فماذا تقول؟ تقول: إما أن يفسر ذلك بالفعل، أو يفسر بالزمان، أو يفسر بالذات، ابحث ما شئت في الأقوال في المطولات؛ إما أن يفسر بالزمان، وإما أن يفسر بالفعل، وإما أن يفسر بالذات، فانظروا هذه الأقاويل الآن لما يقول: الليل كله ناشئة، فسره بالزمان، ناشئة الليل أي الساعات التي تنشأ شيئًا بعد شيء فهي آناته وأوقاته، ودقائقه، وأبعاضه، وأجزاؤه، فهذا تفسير اللفظ بالزمان، ناشئة الليل تنشأ ساعته شيئًا بعد شيء، فمن أوله إلى آخره، ومن قال: بين المغرب والعشاء باعتبار أن الليل يبدأ المغرب لكن لا صلاة ليل ولا قيام بعد المغرب، لكن هؤلاء لهم ملحظ آخر إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ، ومن قال: بعد العشاء لاحظ أول الليل مع وقت القيام الذي يكون من بعد العشاء، فقال: بعد العشاء، أعاده إلى تفسيره بالزمان، واعتبر أن الناشئة هي ما ينشأ أولًا، فناشئة الليل هي ابتداؤه؛ هي أول وقت الليل، ومنه النشأة يعني الابتداء، فلماذا فسروه بما بعد العشاء، وما قالوا: المغرب؟ قالوا: لأن المغرب ليس محل صلاة الليل فنقول: بعد العشاء؛ لأن القضية تتعلق بالقيام، هذا كله تفسير له بالزمان، إن ناشئة الليل انظر الأقوال الأخرى: الليل كله ناشئة، نشأ إذا قام من الليل هذا تفسير بالفعل، فيكون نَاشِئَةَ اللَّيْلِ أي: قيام الليل بالفعل، وهؤلاء منهم من جعله القيام بعد النوم قالوا: لا يكون ناشئة إلا إذا كان القيام بعد نوم، فهم فسروه بالفعل لكن هذا الكلام لا دليل عليه، أي أنه لا يشترط أن يكون بعد نوم، أو قالوا: هو القيام، ومن فسره بالذات قال: إن ناشئة الليل هي النفس التي تقوم وتصلي في الليل، فسره بالذات الإنسان العبد المصلي، ناشئة يعني النفس التي تقوم تصلي، لاحظتم كيف نرجع الأقوال إلى أصولها لنفرع عليها بعد ذلك، وننظر الأقوال التي يمكن أن تجتمع فنجمعها، والأقوال التي الخلاف بينها صوري لفظي فهذه لا نعتبرها أصلًا من الخلاف، بعد ذلك نخرج بنتيجة.
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ وأحسن ما يفسر به - والله تعالى أعلم - أن ناشئة الليل هي ساعاته، وأوقاته في أوله، ووسطه، وآخره، فهي تنشأ شيئاً بعد شيء، ساعة بعد ساعة حتى ينقضي، هذه ناشئة الليل، ومن فسره بالنفس فقوله ليس بعيداً، فالسلف يفسرون تارة بالمطابق، وتارة باللازم، وتارة بالتضمن، وتارة بالإشارة، يستعملون جميع أنواع الدلالة، فمن قال: إن ناشئة الليل هي النفس التي تقوم وتصلي، أو فسره بالفعل؛ فحينما نقول: إن ناشئة الليل هي ساعاته، والقضية المحدث عنها هي القيام، لا بدّ فيه من قائم، وهذا القيام عبارة عن فعل، فيتسع الصدر، فلا نحتاج أن نقول: هذا قول بعيد، وقول شاذ، وقول مطرح لا يلتفت إليه، لا نحتاج هذا الكلام، نتعامل مع هذه الأقوال بهذه الطريقة، أمّا أن تُسرد الأقوال: القول الأول، والقول الثاني، والقول الثالث في المسألة؛ وهكذا فهذا ليس درساً في التفسير، هذا نوع من العبث، أمّا درس التفسير فهو الذي تُختبر فيه الأقوال، وتُنظر، ويُجمع النظير مع النظير، ثم بعد ذلك يُنظر في الخلاف بينها، وكيف نستطيع أن نختار القول الراجح منها، ولماذا قال الآخرون بغيره، وهل يعارض هذا القول؟ التفسير باللازم لا يعارض التفسير بالمطابق، لا يعارض، فهذا كله لا إشكال فيه.
لا شك أن هذا فيه بطء، لكن هذه طريقة في التفسير أرى أنها لا بدّ أن تزرع في النفوس، لا بدّ أن تزرع، وأن يرى الناس طريقة بالتفسير غير الطريقة المعهودة التي يدرسونها في الجامعات، وفي المساجد؛ لأن هذه الطريقة هي التي تربي الملكة، ويتسع الصدر، ويستطيع الإنسان أن يتذوق التفسير، وأن التفسير له معنى، وليس كحاطب ليل.
إذن من قالوا: إن الليل كله ناشئة قالوا: لأنه ينشأ بعد النهار، والذين قالوا: بعد العشاء قالوا: لأن الناشئة بمعنى الابتداء فهو أول الليل، ومبتدؤه، أوله بعد المغرب قالوا: المغرب ليس وقت صلاة، ولا وقت قيام، والكلام هنا في القيام فأوله بعد العشاء الذي ينشأ منه الليل.
الآن إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا أمره بقيام الليل، وترتيل القرآن، ثم علل ذلك؛ لأن "إنّ" هنا تدل على التوكيد، وتُشعر بالتعليل؛ أي لأن ناشئة الليل فيها مزيتان: هِيَ أَشَدُّ وطئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا.
هِيَ أَشَدُّ وطئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا قال: أي أشد مواطأة - يعني موافقة - بين القلب، واللسان، هذه الآية فيها قراءتان متواترتان: الأولى: "هي أشد وَطئاً"، والثانية: هي أشد وِطْئاً بكسر الواو وتسكين الطاء، وكلاهما قراءة متواترة، وهذا التفسير الذي ذكره ابن كثير هنا يصلح على القراءة الثانية التي هي "وِطْئاً" تقول: واطأه، مواطأة، ووِطئًا بمعنى وافقه موافقة، فعلى هذه القراءة هي أشد وِطْئاً يعني أشد مواطأة بين القلب، واللسان، والسمع، والبصر، وذلك أن الليل محل السكون، وهدوء الأصوات، وقلة انتشار الناس، هدأة الليل، ففي هذا السكون يرتفع التشويش، والإزعاج، فإذا قرأ الإنسان قرأ قراءة يجتمع له فيها القلب مع اللسان مع السمع، والبصر، ليس هناك مشوشات تشوش على البصر، ولا أصوات مزعجة، هذا إذا كان الناس ينامون بالليل، فالليل هو وقت الهدوء فيحصل فيه مثل هذا المعنى، فتكون القراءة مؤثرة يخشع فيها الإنسان، وينتفع، ويلين قلبه، ويكونُ قريباً من الله ، هي أشد وِطْئًا، وفي القراءة الأخرى وَطئاً اللهم اشدد وَطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيِّ يوسف[1]، ومعنى أشد وَطئاً أي أشد ثقلًا على هذه القراءة، ويكون المعنى: أشد وَطئاً أي أن صلاة الليل تتطلب مزيدًا من المجاهدة، والمكابدة، والصبر؛ لأنه وقت للراحة، والإخلاد، والنوم، فلا يستطيع أن يقوم فيه إلا الموفق الذي أعانه الله على نفسه فجاهدها حتى ارتاضت له، واستقامت، وإلا فعامة الناس مأسور، تأسره ذنوبه، وتأسره شهواته؛ فيخلد إلى النوم، ولا يستطيع القيام.
ما يقومُ الليلَ إلا | مَن له عزمٌّ وجدُّ |
فهي ثقيلة إلا بلون من المجاهدات ترتاض فيها النفس، وتصبر، فليست سهلة على كل أحد، وهذا معنى صحيح، والقاعدة في هذا الباب أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فكأن عندنا الآن آية تدل على أن صلاة الليل تكون فيها الموافقة بين اللسان، والقلب، والجوارح، وعندنا آية ثانية تدل على أن صلاة الليل ثقيلة على الإنسان؛ لأن الليل وقت النوم، والراحة؛ فهما قراءتان، كل قراءة أفادتنا معنى جديداً، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
أَشَدُّ وطئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة، وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، وأوقات المعاش.
وَأَقْوَمُ قِيلًا: أي أجمع للخاطر في أداء القراءة، وتفهمها .. أقوم قيلًا: القيل هو القول، وَقِيلِهِ يَا رَبِّ [سورة الزخرف:88] يعني وقوله، تقول: وفي قيل ابن جريج، وفي قيل بعض أهل العلم يعني وفي قول بعض أهل العلم، هذا معناه.
وَأَقْوَمُ قِيلًا: أي أقوم قولًا، وذلك يعني أن القراءة في وقت هدأة الأصوات، والسكون؛ تكون أكثر استقامة حيث لا مشوش، ولا مزعج يفسد عليه قراءته فيخطئ، وينسى، ويدخل سورة في سورة، ويختم آية بغير خاتمتها.
وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أسدّ، وأصوب، أقوم أي أكثر استقامة فيؤدي القراءة على وجهها؛ لأنه يقرأ وهو قد تخلص من سائر المشوشات، والمزعجات، والمشغلات، إذاً هي أشد وطئًا أي مواطأة وموافقة بين القلب، واللسان، والجوارح، أو ثقيلة، وهي كذلك يذكر فيها هذا وهذا، وأسد وأصوب؛ لعدم وجود المشوشات هذا معنى وأقوم قيلًا.
فهذا النص الذي سمعتم يعبر هكذا، ما هي الإشكالات؟ ما في خلاف، فما هو وجهه، الرواية ما هي؟
وأصوب قيلًا هكذا الرواية، فلهذا يقول الرجل: إنما نقرؤها وأقوم قيلًا، وليست "وأصوب"، فقال له: إن أصوب، وأقوم، وأهيأ، وأشباه؛ هذا واحد.
ما استوقفكم هذا؟ كيف تقرءون مثل هذه الأشياء؟ كيف تمر عليكم؟ ما تقفون عندها؟ أصوب، وأقوم، وأهيأ واحد، هي فوضى؟ هل كل من أراد أن يقرأ شيئًا يقرأ على مزاجه؟ هذا قرآن لا يجوز زيادة حرف، ولا نقص حرف منه، فيبدل كلمة مكان كلمة إذا اعتقد أن المعنى واحد، يجوز لك هذا؟ والْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:2-3] تقول: الثناء، والشكر مثلًا على تفسير الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هل هذا صحيح؟ ما يصح هذا أبدًا، ولا يجوز بحال من الأحوال، هذه الرواية لا تصح، وهي منكرة متنًا، وضعيفة إسنادًا، رواية الأعمش عن أنس، ولم يسمع منه، والمتن منكر، لا يجوز لأحد أن يبدل كلمة مكان كلمة، والقراءة سنة متبعة ليس لأحد أن يتصرف فيها.
- رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (675).