الآن أمره الله بقيام الليل ثم قال له: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وهذا السبح فُسر بالفراغ، والنوم، لك في النهار فراغ، ونوم، وبعضهم يفسر السبح بالنوم، ويقول: السبح التمدد، سبح: تمدد، فالسبح هو النوم هكذا قال بعض أئمة اللغة، إن لك فراغًا، ونومًا، ما المقصود إذاً على هذا القول؟ يقول: اشتغل بالليل أحي الليل قراءة، وصلاة، ولك في النهار مجال واسع تنام فيه، وتستريح، هذا قاله بعض أهل العلم من السلف.
فراغًا طويلًا، فراغًا، وبغية، ومتقلباً، أو قول من قال: تصرفًا في حوائجك، وإقبالًا، وإدبارًا في تصريف شئونك، وتدبير مصالحك الدنيوية، كل هذه الأقاويل هل بينها تعارض؟
الجواب: لا، إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا السبح أصله في اللغة يطلق على الدوران، والحركة، والمضي، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[سورة يس:40]، ومنه السباحة؛ فالإنسان الذي يسبح يمضي في الماء، ويتحرك فيه؛ يحرك فيه يديه، ورجليه، فالسباحة تعتمد على الحركة، فهذا السبح الطويل المقصود به التصرف في الشئون، وهذا التصرف في الشئون لا شك أنه يتطلب تفرغًا؛ كيف يتصرف في شئونه وهو مشغول؟ فقول من قال بأن المراد به الفراغ لا يعارض قول من فسره بالتصرف، والتقلب في مصالحه، وشئونه؛ لأنه إذا انشغل عن ذلك لا يستطيع كما قال الله عن فقراء المهاجرين واصفاً إياهم: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] بمعنى حصروا أنفسهم على الراجح من المشهور من معناها، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، حصروا أنفسهم فشغلوا بالجهاد فلم يعد لهم وقت للاشتغال بالتجارة، فصاروا بهذه الحالة من الفقر، وقد تركوا كل شيء وراء ظهورهم في مكة ليس للواحد إلا إزار فقط، وليس له رداء، جاهز للجهاد ينتظر متى ينادي المنادي فيخرج يقاتل أعداء الله ، فهذا شُغل عن التجارة.
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا فراغًا طويلًا تتقلب فيه في شئونك، ومصالحك، وتدبير حوائجك، هذا هو المعنى - والله تعالى أعلم -، وبعضهم ارتقى فوق ذلك درجة - والناس مقامات - ففسرها بشيء آخر قال: إنْ فاتك شيء من ورد الليل فلك وقت في النهار يمكن أن تعوضه فيه، هم يدورون بالعبادة، لك سبحًا طويلًا في النهار تعوض ما فات من ورد الليل، هؤلاء مثل الذين فسروا قوله - تبارك وتعالى -: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10]، المشهور أن وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ يعني في التجارة، ولهذا ابن حزم ذهب إلى وجوب الخروج من المسجد بعد صلاة الجمعة أخذًا من هذه الآية، لكن بعضهم ذهب إلى أبعد من هذا فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ بعيادة المريض، واتباع الجنائز؛ وما أشبه ذلك من ألوان العبوديات.
هذه الرواية عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو يصرح فيها أن الذي نسخ قيام الليل المأمور به في صدرها قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا هو قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ لأن العلماء - رحمهم الله -مختلفون ما الذي نسخها هل هي الفروض الخمسة حينما فرضت على الناس؟ أو أن الذي نسخها آيات من آخرها؟ وما هو الجزء الذي نُسخت به؟
القول الأول: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وهذا هو المشهور من هنا نُسخ صدر هذه السورة، ولا يُعلم في القرآن أن سورة نُسخ أولها بآخرها سوى هذه.
يبقى الخلاف ما هو الموضع من آخرها الذي نسخ أولها، وهذا لا يؤثر ولا يفترق به الحكم، قال: حتى بلغ فاقرءوا ما تيسر منه.
وبعضهم يقول: إن الذي نسخها هو الفروض الخمسة، وبعضهم يقول: إن القدر الناسخ أو الشاهد هو قوله: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [سورة المزمل:20] يعني تحصوا الليل - وسيأتي معناها - قالوا: هذا هو الناسخ.
يعني هذا الرجل سعيد بن هشام بن عامر طلق الدنيا، وأراد أن يلتحق بالجهاد، فيجاهد الروم حتى يقتل، ويموت شهيدًا في سبيل الله، فأول ما بدأ به أن طلق امرأته، ثم ارتحل ليبيع عقارًا في المدينة؛ ليتزود به للجهاد.
والكراع يعني المراكب، يشتري بعيراً، يشتري راحلة، دابة، هذا الكراع.
أي لما أُخبر بهذا أن النبي ﷺ كان يجاهد، ومع ذلك له تسع زوجات أو مات عن تسع زوجات، وكان ﷺ له مساكن لأزواجه، ولم يُعرض إعراض هذا عن الدنيا فيذهب ليقاتل حتى يموت، فالرجل عندما سمع هذا الكلام راجع امرأته بعد أن طلقها.
يعني قال: امشِ معي إلى عائشة، رافقني إلى عائشة.
يعني أهل الشام وعلياً ومن معه ، يقول لها: لا تدخلي في هذا الموضوع.
وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا، يعني الآن هذه الرواية من عائشة - ا -، ومصرحة بأنها نسخت بآخرها، وهذا لا يعارض القول الذي قبله.
ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة.
هذه تفيد أنهم قاموا سنة، والفروض الخمسة متى فرضت؟ سورة المزمل من أول ما نزل، متى كان الإسراء؟ لم يكن في أوائل البعثة بل كان في أواخر المدة المكية أُسري برسول الله ﷺ، وبعضهم يقول: قبل الهجرة بسنة، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن لا شك أن الإسراء والمعراج في أول البعثة، فكيف يقال:إن الذي نسخ قيام الليل هو الفروض الخمسة؟ هذا بعيد، بقيت سنة واحدة فنسخت بآخرها، وفيها تصريح بأن هذه السورة لم تنزل جملة واحدة، وإنما نزل أولها ثم نزل آخرها، وبعض سور القرآن قد ينعكس فيها هذا الأمر - على الأقل على بعض الأقوال - ينزل آخر السورة ثم ينزل أولها، الآن في قوله - تبارك وتعالى - في سورة الممتحنة: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [سورة الممتحنة:10] هذا في آخر السورة في النصف الثاني من السورة، نزل هذا بعد صلح الحديبية مباشرة بفترة يسيرة، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة للهجرة، وأول السورة نزل في قصة حاطب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [سورة الممتحنة:1]، قصة حاطب كانت والنبي ﷺ يتهيأ لفتح مكة في السنة الثامنة، هذا على الأشهر، فعلى هذا القول يكون النصف الثاني من السورة نزل قبل النصف الأول، وهناك قول غير هذا لبعض أهل العلم، ويستدلون عليه بأدلة يقولون: أول السورة، وقصة حاطب لم تكن في فتح مكة، وإنما حينما كان ﷺ يتهيأ للذهاب إلى مكة في السنة السادسة التي وقع فيها الصلح، لكن هذا فيه إشكالات.
بناء على أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة لكنه لا يوتر في النهار.
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، والشاهد مضى وهو في فريضة قيام الليل ثم نسخت في آخرها، هذا هو الشاهد، وإلا فحتى قضية المشافهة مسألة تتعلق بعلوم الحديث، بالرواية، وطلب العلو في الإسناد.
وروى ابن جرير عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولًا حتى وَرِمتْ أقدامهم، وسُوقهم حتى نزلت: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: فاستراح الناس، وكذا قال الحسن البصري والسدي.
يمر كثيرًا في التفسير عن أبي عبد الرحمن، فمن هو؟ هو السلمي قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولًا، هذا يوافق رواية عائشة - ا -: حتى نزلت: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وعلى هذا يكون الناسخ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ولا إشكال، هذا جزء من آخرها.
الحسن وابن سيرين يقولان: إن قيام الليل واجب، وعلى قولهما ما الذي نُسخ؟ هو المقدار، قم الليل إلا قليلًا نصفه أو انقص منه قليلًا أو زد عليه، فالله قال: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ يعني الليل كما سيأتي، وضبط المواقيت على هذا التفسير، فالحسن وابن سيرين يقولان بوجوب قيام الليل بناء على ماذا؟
يتفقان مع غيرهما في قضية النسخ، لكن قولهما يختلف، ومعناه أن النسخ وقع فقط في تحديد مقدار القيام فصار مفتوحًا، قالوا: لم ينسخ إلى الترك مطلقًا أو إلى غير بدل، وإنما نسخ بهذا القيد فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ فقالوا: يجزئه في قيام الليل قدر حلب شاة، وقت يسير، فمعنى ذلك أنه لو صلى وأوتر بعد العشاء فإن ذلك يجزئه على قول الحسن وابن سيرين أخذًا من قوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، فالنسخ عندهما في المقدار فقط، أي تحديد الذي كان في أول السورة، وهذا خلاف قول الجمهور، ومما يقوي قول الجمهور ما جاء من الروايات، كيف استراح الناس؟، وكيف خفف عنهم؟ معنى ذلك أنه لم يعد واجبًا.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا[سورة المزمل:2-3] فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف الله - تعالى - عنهم، ورحمهم، فأنزل بعد هذا: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة المزمل:20]، إلى قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فوسع الله - تعالى -، وله الحمد، ولم يضيق.
فهذه الآن رواية رابعة تفيد أن الناسخ هو قوله: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى.
- رواه أحمد في المسند، برقم (24269)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، ويحيى - وهو ابن سعيد القطان - سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط".
- رواه أحمد في المسند، برقم (24269)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، ويحيى - وهو ابن سعيد القطان - سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط".