الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِيمَٰنًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

عدد خزنة جهنم وما قاله الكفار حول ذلك:

يقول تعالى:وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ[سورة المدثر:31] أي: خُزّانها،إِلَّا مَلَائِكَةًزبانية غلاظاً شداداً، وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى:وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً أي: شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون، وقد قيل: إن أبا الأشدين...

المعروف الذي يذكر في عامة الكتب أبو الأشد.

واسمه: كَلَدَة بن أسيد بن خلف قال: يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر، إعجاباً منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه.

وقوله تعالى:وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُواأي: إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منا للناس.

أصل الفتنة هي الفَتْن وهو عرض الشيء على النار، المعدن الذهب أو غيره، ليخرج بذلك الذهب الخالص ويتميز عن شوائبه، هذا هو أصل الفتْن، وهكذا الاختبار تتجلى فيه حقائق الناس فيتبين به من كان منهم صادقاً ومن كان كاذباً، ومن كان ثابتاً ومن كان متردداً، فهذا أصل الفتْن هو العرض على النار إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[سورة البروج:10] أي:أحرقوهم بالنار على أحد التفسيرات، أو فتنوهم في دينهم، ولا معارضة ومنافاة؛ لأنهم عرضوهم على النار-أحرقوهم-في قصة الأخدود:فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ،إِلا فِتْنَةًوتطلق الفتنة على نتيجة الاختبار،ومنه:ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ[سورة الذاريات:14]، أيكم المفتون؟،إِلا فِتْنَةًبعضهم يقول: إلا ضلالة أو محنة أو عذاباً، بمعنى المحنة: الاختبار، والضلالة هي نتيجة أنه إذا اختُبر ضل، فهذا من باب التفسير باللازم، ومن قال عذاباً فكما قلت لكم: الفتْن أصله الإحراق،إِلا فِتْنَةًإلا عذاباً، والله أعلم.

لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَأي: يعلمون أن هذا الرسول حق؛ فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله.

لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَأي: يحصل لهم اليقين؛ لأنهم وجدوا قوله موافقاً ومطابقاً لما في كتبهم، فيعلمون أن ما جاء به ﷺ حق.

وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًاإيماناً إلى إيمانهم، أي: بما يشهدون.

أي: بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد ﷺ.

وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا يزدادون إيماناً إما من جهة الكمية أو من جهة الكيفية، ويمكن أن يجتمع الأمران، من جهة الكمية فهم كلما آمنوا بحقيقة من حقائق الدين كان ذلك زيادة في الإيمان، فالإيمان يزيد وينقص، فإذا أخبرهم أن أصحاب النار ملائكة وأنهم تسعة عشر فآمنوا بهذه الحقيقة كان ذلك زيادة في الإيمان، كما في أثر ابن عباس أن الله حينما بعث نبيه ﷺ بعثه بشهادة أن لا إله إلا الله، فآمن من آمن، ثم افترض عليهم الصلاة فزادهم إيماناً، الصلاة صارت زيادة في الإيمان، ثم فرض عليهم الزكاة فكان ذلك زيادة في إيمانهم، ثم فرض عليهم الصيام وهكذا، فهذا كله من باب الزيادة، ومن جهة الكيفية:وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًامن جهة الكيفية بمعنى: أنهم إذا رأوا أهل الكتاب عندهم في كتبهم مثل هذا -وهم أهل علم- فوافق الذي ذكر وهو رقم تسعة عشر من الملائكة هذا فيكون إيمان أهل الإيمان أوثق، وبعض أهل العلم يقول:وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُواأي:المؤمنون من أهل الكتاب، والمعنى أعم من هذا، أهل الكتاب يحصل لهم اليقين، وأهل الإيمان يزدادون من جهة الكمية والكيفية.

وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: من المنافقين،وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا.

وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَالآن لاحظ ماذا قال؟لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ،وبشأن المؤمنين قال:وَيَزْدَادَ،ثم قال:وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَأثبت اليقين لهؤلاء وزيادة الإيمان ثم قال:وَلا يَرْتَابَفيقال: إثبات اليقين وزيادة الإيمان، ونفي الريب هنا إن رجعا إلى شيء واحد وفسر المعنى به يكون من قبيل التوكيد أنه يقين، يكون ذلك مقرِّراً لهذا اليقين ومؤكداً له، فهو يقين لا يداخله ريب، يقين ثابت راسخ لا يداخله الريب وَلا يَرْتَابَ؛ لأن العلم إذا رسخ وثبت وكان محققاً فإن صاحبه لا يحصل له التشكيك، إنما يحصل ذلك لمن كان إيمانه ضعيفاً لجهل، أو بطريق الوراثة فقط من غير علم، والله تعالى أعلم.

ويمكن أن يكون ذلك يرجع إلى شيئين:وَلا يَرْتَابَتكون راجعة إلى غير ما يرجع إليه قوله:لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَفالخبر عن عدد الملائكة يكونلِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وعدم الريب:وَلا يَرْتَابَنفْىُ الريب عن أهل الكتاب بعد ذلك وعن المؤمنين يكون إلى عموم ما أخبر به النبي ﷺ، يعني: حينما ذكر لهم العدد تسعة عشر يحصل اليقين لأهل الكتاب لأنه يوافق العدد الذي عندهم،وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًامن جهة الكمية والكيفية، آمنوا بحقيقة جديدة ورأوا ما ذكره النبي ﷺ موافقاً لما عند أهل الكتاب، أهل الكتاب يقرون به فازدادوا إيماناً،وَلا يَرْتَابَلا يحصل الريب في صدق ما جاء به محمد ﷺ وأنه مخبر عن الله فيما يقوله ويبلغه من حقائق الدين عموماً، فهذا نموذج حصل لهم بسببه اليقين فانتفى عنهم الريب فيما جاء به محمد ﷺ بشكل عام، والله أعلم.

وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ من المنافقين وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا أي: يقولون: ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى...

المثل يطلق بإطلاقات متعددة، فلا تفهمْ منه المثل المتبادر اليوم في أذهان السامعين، وهو الجملة المحكية التي لها مورد ومضرب، قيلت في مناسبة، ثم تقال بعد ذلك في أشباهها، مثل قولك: الصيفَ ضيّعتِ اللبنَ، رجل أراد أن يتزوج امرأة، رجل كبير وعنده مال وغنم وإبل وأراد أن يتزوج امرأة شابة فأبت، فأصابتها حاجة وفقر فجاءت إليه في الشتاء، الشتاء عادة هو وقت القحط والجفاف والفقر والحاجة والجوع، فجاءت إليه وقالت: أعطنا منها، خطبها في الصيف فأبت، فقال: الصيفَ ضيعتِ اللبنَ، الآن آتية تريدين اللبن!، يعني: يوم خطبتك أبيتِ الآن ما عندي شيء، الصيف ضيعت اللبن، فهذا هو المثل المتبادر، لكن هذا نوع مما يطلق عليه المثل، مثَل يأتي بمعنى الصفة:مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ[سورة الرعد:35] يعني: صفة الجنة التي وعد المتقون،وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ[سورة العنكبوت:43]،مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً[سورة البقرة:17] ليس معناه المثل الذي له مورد، هذا ما له وجود في القرآن أصلاً، هذا المثل المعروف عند الأدباء لا وجود له في القرآن، لا يوجد في القرآن هذه الأمثال، إنما يوجد في أشياء سارت سير الأمثال، مثل بعض العبارات التي استعملت استعمال الأمثال في القرآن استعملها الناس بعد ذلك،وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ[سورة الأنفال:42] ممكن أن بعض الناس يستعمل هذا، وما أشبه ذلك مما تستعمل به العبارة نفسها، أو ما يكون متضمناً لمعنى المثل، مثل: كما تدين تدان، يوافقها من القرآن وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا[سورة الشورى:40]،وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[سورة فاطر:43]، {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [سورة الرحمن:60]،جَزَاء وِفَاقًا[سورة النبأ:26]، وما أشبه ذلك، فهناك أشياء معنى المثل فيها موجود في القرآن،وأشياء وألفاظ استعملت استعمال المثل بعد ذلك، لكن الأمثال التي في القرآن لها مورد وكذا والله  يتمثل بها هذا لا يوجد في القرآن، المثل يأتي أحياناً بمعنى التشبيه وبمعنى الصفة وبمعنى الحال، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً، وهنا:مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًاأي: بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل؟، والله تعالى أعلم، وفي ذكر هذا واستغراب مستغرِب من استغراب المثل قال تعالى:كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءكذلك أي: كهذا الإضلال الذي أضل به الكفار.

كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُأي: من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

هنا ذكر خمس حِكَم واضحة في هذه القضية، قال:فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ،الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌهذه الآية مكية، السورة مكية، وكما سبق أن بعض العلماء قال: هي مدنية بناء على أن المنافقين كانوا في المدينة وأهل الكتاب، وهذا لا يحملنا على القول بأنها مدنية، بناء على القاعدة السابقة، فالذين في قلوبهم مرض: يأتي المرض بمعنى النفاق،فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10] مرض النفاق، ويأتي بمعنى ضعف الإيمان والتردد مثل:وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا[سورة الأحزاب:12]، الذين في قلوبهم مرض بعض العلماء يقول: هذا من عطف الأوصاف: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى[سورة الأعلى:1-4] الموصوف واحد، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد ذكر لهم صفتين، وبعضهم يقول: لا، هم المنافقون المعروفون، والذين في قلوبهم مرض المتشككون المترددون من ضعفاء الإيمان، ويطلق المرض الإطلاق الثالث -في موضع واحد في القرآن- على الميل المحرم للنساء:فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ[سورة الأحزاب:32].

فالحاصل هنا يقول:وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌيعني سواء أهل النفاق أو ضعفاء الإيمان أو غير ذلك.

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ۝ كَلا وَالْقَمَرِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ۝ إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ ۝ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ۝ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ[سورة المدثر:31-37].

عدد خزنة جهنم وما قاله الكفار حول ذلك:

يقول تعالى:وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِأي: خُزَّانها،إِلا مَلائِكَةً.

وقوله:وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَأي: ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط.

وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله ﷺ أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة:فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم[1].

في قوله -تبارك وتعالى-:وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ دليل على أن القول الراجح في معنى قوله -تبارك وتعالى-:عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ[سورة المدثر:30] أي: تسعة عشر ملكاً، خلافاً لمن قال بأن هؤلاء التسعة عشر أنهم من الأصناف، تسعة عشر صنفاً أو تسعة عشر صفاً من الملائكة، ومقدار الصف لا يعلمه إلا الله ، أو من قال بأنهم تسعة عشر نقيباً، ومع كل نقيب جماعة لا يعلمها إلا الله من الملائكة، إنما هم هذا العدد الذي ذكره الله من الملائكة، ثم عقب ذلك بقوله:وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَأي: أنه اختار هذا العدد لحكمة يعلمها وإلا فإن جنوده من الملائكة وغيرهم لا يحصيهم إلا هو -تبارك وتعالى-، وهذا الحديث يدل على هذا، وهو كثرة من يحج البيت المعمور من الملائكة، يأتيه في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثانية، فكم عدد هؤلاء الملائكة والجنود لله -تبارك وتعالى؟.

وقوله تعالى:وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِقال مجاهد وغير واحد:وَمَا هِيَأي: النار التي وصفت،إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ.

وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىذكر ابن كثير -رحمه الله- عن مجاهد أن الضمير هنا يعود إلى النار، أي: نار الآخرة التي وصفها الله أن عليها تسعة عشر وذكر خبرها، وبعض أهل العلم يقول: إن الذكرى هي نار الدنيا، أنها تذكر بنار الآخرة، وبعض أهل العلم يقول:وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىأي: المواعظ والحجج والبينات التي ذكرها الله في هذا القرآن،وَمَا هِيَ أي: مواعظ القرآن وحجج القرآن وبراهين القرآن، هذه كلها، وبعضهم يقول: هذا المراد به ما ذكر في السورة من خبر النار، وما ذكر الله قبل ذلك،وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىهذه الآيات التي ذكرها الله قبل هذه الآية إنما هي ذكرى للبشر، وبعض أهل العلم يقول: وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىأي آيات القرآن، وبعضهم قال: الآيات السابقة التي سبقت هذه الآية، وبعضهم يقول: أقرب مذكور وهو قوله:عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَوَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ أي: أن عدد خزنة جهنم إنما هو ذكرى للبشر، ولعل أقرب هذه الأقوال-والله تعالى أعلم- وهو الملائم للسياق أن النار المحدَّث عنها التي عليها تسعة عشر أنها ذكرى للبشر، أي: أن الله  يخوفهم بذلك، ويعظهم بها فيعتبرون، فيعمل كل إنسان لآخرته ويتقي هذه النار.

وإذا قلنا: إن المراد هم خزنة جهنم على قول من قال بذلك وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِقالوا: ليدلل على قدرته ، ولكن هذا فيه بُعد، والذي يدل عليه السياق هو ما ذكرت، والله تعالى أعلم.

 

  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3207)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات، برقم (162).