السبت 13 / ربيع الأوّل / 1447 - 06 / سبتمبر 2025
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

رؤية الله في الآخرة:

ثم قال تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌمن النضارة، أي حسنة بهيّة مشرقة مسرورة،إِلَى رَبِّهَانَاظِرَةٌأي:تراه عيانا،كما رواه البخاري-رحمه الله تعالى-في صحيحه:إنكم سترون ربكم عَيَانا[1].

هو هذا، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تفسر الآية بغير هذا، أبداً، وكل تفسير غير هذا فهو باطل قطعاً، والأحاديث الواردة في الرؤية أحاديث متواترة لا ينازع فيها إلا مكابر، ويمكن أن تؤوَّل آيات الوعيد وغيرها، ولربما يكون ذلك أسهل على المتأول من تأويل مثل هذه الآية التي تواترت النصوص بتقرير معناها، انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌتحدث عن الوجوه، أي أنها موصوفة بالنضارة والبهاء والحسن والوضاءة، وهي وجوه أهل الفضل والخير والإيمان والصلاح، بخلاف أهل الفجور فهي إلى السواد، فكلما ازدادت معاصيه وأظلم قلبه ازداد كلوحاً وظلمة،وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ بها نضرة من النعيم،إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌأضاف النظر إلى الوجوه التي فيها الأبصار، ولا يمكن أن يفسر ذلك بالانتظار، منتظرة ثوابه كما يقول أهل التحريف من المعتزلة، أبداً، هو يتحدث عن الوجوه، ونظر الوجوه التي فيها البصر،وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌحسنة جميلة فيها نضرة النعيم، تنظر إلى ربها -تبارك وتعالى-، وهذا أعظم لذةٍ ونعيمٍ، فلفظ النظر يعدى بنفسه فيكون بمعنى الانتظار، انظرونا بمعنى انتظرونا، كما في قوله تعالى:انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ[سورة الحديد:13] يعني: تمهلوا انتظرونا، وذلك على الصراط، ويعدى بـ"إلى" وإذا عدي بـ"إلى" فهو لا يفسر بحال من الأحوال بغير النظر بالعين، النظر الحقيقي، ويعدي بـ"في"، يقال: نظر في كذا، فيأتي بمعنى التأمل والتفكر وإجالة الذهن في هذا الأمر، تقول: سأنظر في أمرك، نظرت في أمر كذا، نظرت في قول فلان، نظرت في هذه المسألة، بمعنى أجلت الذهن فيها.

وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث.

أحاديث الرؤية رواها أكثر من عشرين صحابياً عن النبي ﷺ، رواها نحو واحد وعشرين صحابياً من طرق مختلفة، ونص على تواترها جماعة من أهل العلم.

من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها؛ كحديث أبي سعيد وأبي هريرة -ا- وهما في الصحيحين:أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم تَرَون ربكم كذلك[2]، وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله ﷺ إلى القمر ليلة البدر فقال:إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا[3].

يعني بمعنى أنهم يرون الله رؤية حقيقية بأبصارهم، بعين رأسه، ولا تضارون في رؤيته أي لا يلحقكم الضرر بسبب هذه الرؤية، تضارون بسبب الزحام مثلاً أو نحو ذلك كما في اللفظ الآخر:لا تَضامُّون، أو لا تُضامُون أيضاً بمعنى لا يلحقكم الضيم، أو لا تَضامُّون بمعنى لا تزدحمون على رؤيته، كما ترون القمر، القمر يراه كل أحد ولو كان خالياً، لا يحصل تزاحم كما يحصل على رؤية بعض الأشياء التي في الدنيا، لو ازدحم الناس ليروا شخصاً مثلاً أو جوهرة أو نحو هذا فيزدحمون ازدحاماً شديداً عليه، لكن يرون الله من غير هذا.

وفي أفراد مسلم عن صهيب عن النبي ﷺ قال:إذا دخل أهلُ الجنة الجنة قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيضْ وجوهنا؟ ألم تدخلْنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة، ثم تلا هذه الآية:لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [4] [سورة يونس:26].

وفي أفراد مسلم عن جابر في حديثه:إن الله يتجلَّى للمؤمنين يضحك[5] يعني في عَرصات القيامة، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم  في العرصات، وفي روضات الجنات.

ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضعَ من هذا التفسير، وبالله التوفيق، وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهُدَاة الأنام.

 

يدل عليه من القرآن مفهوم المخالفة كما في قوله تعالى:كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ[سورة المطففين:15]، كما قال الشافعي: إذا حجب هؤلاء في حال السخط فإن أهل الإيمان يرونه في حال الرضا، هذا مفهوم المخالفة، ولذلك حرمانهم من رؤية الله وحجبهم عنه أعظم، لا شك أنه أعظم من أعظم العذاب الذي يقع بهم، فيكون من أعظم النعيم الذي يحصل لأهل الجنة هو أنهم يرونه -تبارك وتعالى.

 

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللَّهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23]، برقم (7435).
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللَّهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23]، برقم (7439)، ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (183).
  3. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (554)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم (633).
  4. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ، برقم (181).
  5. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (191).