الجمعة 12 / ربيع الأوّل / 1447 - 05 / سبتمبر 2025
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر -رحمه الله تعالى-:

وقوله:ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ۝ تظن أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ[سورة القيامة:24-25] هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة، قال قتادة: كالحة، وقال السدي: تُغيَّر ألوانها.

فلما ذكر الله ما أعطى أهل الإيمان من النضارة والبهجة والضياء في وجوههم، وما يظهر عليها من أثر النعيم والسرور ذكر وجوه أعدائه كيف تكون في ذلك اليوم، فقال: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، فما ذكر هنا في تفسيرها من أنها كالحة أو متغيرة هو بمعنى واحد، لأن كلوحها -كون هذه الوجوه كالحة- أي أنها تضرب إلى السواد، مسودة، فهذا معنى متغيرة، وهذا مما يسميه العلماء كما مر في مقدمة أصول التفسير، يسمونه باختلاف التنوع، بمعنى أنا لا نحتاج أن نرجح بين هذه الأقاويل، فكلها حق، هي متغيرة تميل إلى السواد، أو مسودة، وذلك لشدة ما يعانيه أصحابها من المذلة والمهانة، فتسود وجوههم كما قال الله :يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ[سورة آل عمران:106]، أي: يقال لهم:أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، والعرب تقول لمن وقع في شر فعله يقولون له: اسود وجهه، ويدعون عليه بسواد الوجه، ومن الوجوه التي تذكر في معنى باسرة أنها من شدة إحراقها وتعذيبها في النار تبدو الأسنان لتقلص الشفاه، وذلك شيء مشاهد، إذا أحرق رأس البهيمة على النار مثلاً فإن أسنانها تبدو، تظهر، فبعضهم يقول:وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌأي: أن أسنانها تظهر من شدة التعذيب أو من شدة الإحراق، أو لِمَا يحصل للوجه من الانقباض بسبب الحرارة والنار والإحراق فتبدو أسنان هذا الإنسان، والقول الأول أقرب -والله تعالى أعلم-؛ لأن الله يتحدث عن أحوال القيامة، وعن أهوالها، فذكر نظر أهل الإيمان وما يحصل له من الإشراق في ذلك اليوم، وذكر حال هؤلاء بما يحصل لهم من سواد الوجوه، ومعنى بَاسِرَةٌ أي: أنها كالحة مسودة متغيرة، والله تعالى أعلم.

تَظُنُّ أي: تستيقن.

تَظُنُّأي: تستيقن؛ لأن الظن يأتي بمعنى اليقين، كما قال الله :الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46]، فليس المعنى أن هؤلاء غير متيقنين، وكذلك قول الجن:وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا [سورة الجن:12]، فالظن هنا ليس معناه الطرف الآخر -وهو طرف الرجحان- الذي يقال له: غلبة الظن، حيث تقسم المعرفة أو تقسم الأمور من هذه الحيثية إلى العلم الذي يسمونه اليقين، ثم غلبة الظن، يسمونه الظن الغالب أو الظن -إذا أطلق-، ثم بعد ذلك الشك وهو مستوِي الطرفين، ثم الوهم وهو ما دونه -الطرف المرجوح-، فليس الطرف الأعلى هو الظن هنا، وإنما المقصود به اليقين، فالظن يطلق على اليقين، ويطلق على طرف الرجحان في القسمة التي ذكرتها آنفاً، القسمة الرباعية.

أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌقال مجاهد: داهية، وقال قتادة: شر، وقال السدي: تستيقن أنها هالكة، وقال ابن زيد: تظن أنْ ستدخل النار.

هذه الأقوال كلها مما يسمى بخلاف التنوع، لا نحتاج إلى أن نرجح قولاً على قول، فـ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ،الفاقرة: الداهية العظيمة، تقول: هذه فواقر، وتقول: فواقر الدهر أي دواهيه العظام، وما أشبه ذلك، فـ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌدخولها للنار فاقرة، وتعذيبها فاقرة، وحصول الداهية وقوع الدواهي والأمور العظيمة لا شك أن هذا منها، والشر دخول النار أعظم الشر، فهي تعلم وتستيقن أنه يفعل بها، وهذا مما يرجح القول الذي ذكرته آنفاً بأن باسرة بمعنى كالحة؛ لأنها تنتظر الدخول في النار، تنتظر العذاب، لم تحرق بالنار بعد.

وهذا المقام كقوله تعالى:يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ[سورة آل عمران:106] وكقوله تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ۝ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ[سورة عبس:38-42]، وكقوله تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةًإلى قوله:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ۝ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ۝ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ[سورة الغاشية:2-10] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.