الأحد 29 / صفر / 1447 - 24 / أغسطس 2025
وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله:وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ قيل: على حب الله تعالى، وجعلوا الضمير عائدًا إلى الله لدلالة السياق عليه.

لدلالة السياق عليه، والأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو الطعام، وهذا هو المتبادر،وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ليس المتبادر أنهم يفعلون ذلك لمحبتهم لله ، وإن كان هذا أصلاً من لازم فعلهم، أنهم قدموا هؤلاء الفقراء على أنفسهم؛ لأنهم يحبون الله، لأن المتصدقين -هؤلاء المُطعِمين- يحبون الله فقدموا مرضاته، لكن المعنى،عَلَى حُبِّهِ أي: على حب هذا الطعام، وهذا هو الذي يُمدح به، أن تكون هذه الصدقة كما جاء في الحديث:خير الصدقة جهد المقل[1]، وإذا كانت الحاجة داعية وماسة لهذا فهذا هو حقيقة الإيثار، وأما إذا كانت الأشياء مبذولة ومتوفرة ولا يحتاج إليها الإنسان أو يضطر إليها فإن بذله لها قد لا يكون له أثر عليه، فكلما ازدادت الحاجة كان وقع الإيثار أعظم،وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[سورة الحشر:9]، فهم يقدمون هذا الطعام على حبه، هذا الطعام ليس كثيراً عندهم ملوه وفاض في بيوتهم، وإنما تشتاق نفوسهم إليه، ويحبونه، ومع ذلك يتصدقون به ويطعمونه.

والأظهر أن الضمير عائد على الطعام، أي: ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، قاله مجاهد، ومقاتل، واختاره ابن جرير، كقوله تعالى:وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ[سورة البقرة:177]، وكقوله تعالى:لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران: 92].

هذا من تفسير القرآن بالقرآن.

وفي الصحيح:أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى، وتخشى الفقر[2] أي: في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه.

وهذا يفسر به أيضاً الحديث الآخر لما سئل النبي ﷺ عن أفضل الصدقة وأخبر أن ذلك ما كان عن ظهر غنى، إذا تصدق الإنسان وهو صحيح -ظهر غنى بمعنى: صحيح- شحيح يأمل الغني: أي أنه يتصدق وهو يؤمّل زيادة هذا المال، ومعروف أنه كما في الآية المنسوخة لفظاً:لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً[3].

ولهذا قال تعالى:وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[سورة الإنسان:8] أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما.

المسكين إذا أطلق دخل فيه الفقير، إلا إذا ذكر معه فالخلاف معروف، من أهل العلم من يقول: الفقير أشد حاجة؛ لأن الله قال:أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ[سورة الكهف:79]، قالوا: المساكين عندهم سفينة يشتغلون فيها، لكن ما تكفي لحاجاتهم الضرورية، أما الفقير فما عنده شيء، وبعضهم يقول: المسكين أشد حاجة كما قال الله :أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[سورة البلد:16]، فكأنه قد لصق بالتراب، ما عنده شيء، ويحتجون بقول الشاعر:

أمّا الفقيرُ الذي كانت حَلوبتُهُ  

 كانت حلوبته، قالوا: عنده حلوبة عنده معز يحلبها، فهو يجد على الأقل شيئاً يتقوت به، وقد لا يكفيه لكنه أفضل من المعدم تماماً، فإذا ذكر المسكين أو ذكر الفقير منفرداً فيدخل فيه الآخر، كما قيل: إذا اجتمعا افترقا، يعني افترقا في المعنى، إذا اجتمعا لفظاً: الفقراء والمساكين، وإذا افترقا اجتمعا في المعنى، فهنا المسكين يدخل فيه الفقير مِسْكِينًا وَيَتِيمًا، واليتيم هو من الآدميين مَن فقد الأب، فقد أباه في حال الصغر يعني قبل البلوغ، فإذا بلغ فليس بيتيم.

وأما الأسير فقال سعيد بن جبير، والحسن، والضحاك: الأسير من أهل القبلة، وقال ابن عباس -ا-: كان أسراؤهم يومئذ مشركين.

الأسير هنا الله أطلقه، بعض السلف كسعيد بن المسيب يقول: من أهل القبلة، وبعضهم يقول: هذه الآية نسخت على القول بأن المراد بذلك أهل الإشراك، بحيث إن الأسرى في ذلك الوقت كانوا من المشركين، فيقولون: إنها نسخت بآية السيف، فالأسير ليس له إلا السيف، لا يُطعم، وهذا الكلام غير صحيح، وذلك أن آية السيف لا يصح أنها نسخت هذا القدر من الآيات مائة وأربعاً وعشرين آية، يقول: كل آية فيها عفو وصفح وإعراض وتفويض الأمر إلى الله في معاملة هؤلاء الكفار منسوخة بآية السيف، فهي لم تنسخ، وإنما ذلك على أحوال، فإذا كان الناس في حالة ضعف كانت الأمة في حالة ضعف فهنا العفو والإعراض والصفح، وإذا كانت الأمة في حال القوة والتمكن فهنا يأتي إعمال السيف، فالحاصل أن الأسير هنا عام لم يخص به أهل القبلة، والأصل بقاء العام على عمومه إلا لدليل يخصصه، فهم يطعمون الطعام على حبه هؤلاء الفقراء والمساكين والأيتام، ويطعمونه أيضاً الأسرى، فهذا الأسير أنت مأمور بالإحسان إليه ولو كان كافراً، مأمور بالإحسان إليه يعني في حال أسره حتى يقرر في أمره ما يقرر، إما القتل أو الاسترقاق أو الفداء أو يطلق مجاناً –المن-، الله  يقول: فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء[سورة محمد:4].

ويشهد لهذا أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء.

وقال عكرمة: هم العبيد، واختاره ابن جرير، لعموم الآية للمسلم والمشرك، وهكذا قال سعيد بن جبير.

قول عكرمة هنا: هم العبيد هل يمكن أن يوجه؟ أو نرفضه ويرد ويقال: الأسير معروف في كلام العرب وانتهينا؟ يمكن أن يوجه فيقال: إن هؤلاء بمنزلة الأسير في يدك، النبي ﷺ ألم يقل عن النساء:عوان عندكم[4]، لهذا بعضهم قال:وَأَسِيرًاأي النساء، والعوان جمع عانٍ وهو الأسير، فكوا العاني يعني فكوا الأسير، فالمرأة أسيرة عند هذا الزوج، فهو مأمور بالإحسان إليها، وكذلك هذا الرقيق العبد هو أسير عند سيده، بمنزلة الأسير عند سيده، فهو مأمور بالإحسان إليه؛ لأنه لا يستطيع أن يتصرف ويذهب ويترك هذا السيد، فهذه الأقوال يمكن أن توجه بهذه الطريقة، وإن كان معنى الأسير معروفاً لكن يؤخذ من ذلك أن هؤلاء الذين لا يجدون حيلة وهم بمنزلة الأسير عندك أنك مأمور بالإحسان إليهم، والله أعلم.

وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة.

وقد وصى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقّاء في غير ما حديث.

قال عكرمة: هم العبيد، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن وقتادة، وقد وصى النبي ﷺ...، هنا عام.

فقول سعيد بن جبير وعطاء والحسن: إنه الأسير الذي هو المشرك، وابن جرير يقول: هي عامة في المسلم والكافر، الأسير يدخل فيه المسلم والكافر، يدخل فيه من أسر في الحرب، ويدخل فيه أيضاً المحبوس، وهو كذلك أيضاً بحاجة إلى الإحسان.

وقد وصى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول:الصلاةَ وما ملكت أيمانكم(11).

قال مجاهد: هو المحبوس، أي: يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه، قائلين بلسان الحال:إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي: رجاءَ ثواب الله ورضاه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا.

وبعض أهل العلم يقولون:ويطعمون الطعام على حبهعلى حب الإطعام، وهذا من أبعد ما يكون في المعنى، على حب الإطعام، هم يحبون الطعام، وبهذا مُدحوا.

لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراًأي: لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.

لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراًالشُّكور هنا يحتمل أن تكون هذه اللفظة مراداً بها الجمع، فالشكر يجمع على الشكران والشكور، ويمكن أن يراد بها المصدر، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، مثل القعود على وزن فُعول، شكور وقعود، وركود وركوب وما أشبه ذلك، فهم يقولون:لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً، لا نريد منكم مقابلة ذلك بالهدية أو المال أو غير ذلك من الخدمة، ولا نريد منكم الشكران، سواء كان باللسان أو بغيره، ولهذا كان كثير من السلف من أهل الورع لا يأخذون ممن أحسنوا إليه شيئاً، حتى إن الواحد منهم لربما إذا قيل له: جزاك الله خيراً -إذا تصدق على الفقير- رد عليه بمثلها، بادره بالرد، لكن هو لا يريد منه حتى هذه الكلمة.

قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمَا والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب.

بعض السلف كان إذا ذهب يشتري فوجد رجلاً يقول: هذا فلان فاستوصِ به، يغضب ويخرج من المحل، ويقول: إنما نشتري بأموالنا، لا نشتري بديننا، يعني: هو إمام والأمة تنتفع به، فهو لا يريد أن يأخذ مقابلاً على هذا أن الناس يراعونه في البيع والشراء، ويحابونه في ذلك ويكسرون له من الأسعار؛ لأنه فلان، وأكثر من هذا كان بعض أهل العلم إذا احتاج ماءً فجاء له بهذا الماء بعض من يأخذ عنه الحديث كان لا يقبل ذلك منه؛ لئلا يكون ذلك في مقابل ما أخذ عنه، هذه درجات عالية في الورع من أمور مباحة، هذه لا يصل إليها عامة الخلق، فالمقصود أن هذه تكون قاعدة للإنسان في عمله الصالح ودعوته إلى الله ، في تعليمه للعلم، أنه لا ينتظر من الناس أن يقدروه وأن يحترموه، وأن يحسنوا إليه، وأن يوصلوا إليه ألوان المعروف، والهدايا، والعطايا، والهبات وما أشبه ذلك، فيفعل ذلك من أجل الله ، وهذا هو الأدعى أن يستمر الإنسان على عمله، ولذلك تجد من يعمل، قد يكون يعمل في مدرسة، قد يكون في أي مكان آخر ثم لا يجد تقديراً من المدير، من المسئول، من كذا، فينقطع ويضجر، ويقول: هؤلاء لا يقدرون، أنا عملت كثيراً، قدمت كثيراً، وأنا الذي بنيت هذا المشروع، ولم أسمع كلمة شكر، أو يوجه لي خطاب شكر،إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا، لا نريد منكم شيئاً، ولا ننتظر منكم شيئاً، إنما نريد ما عند الله، فإذا كنت تريد ما عند الله فلا تحزن، وكذلك المرأة في بيتها ربما تحزن وتضجر أن هذا الزوج لم يكافئها على عملها، وقيامها على الأولاد، وصبرها على أذاهم، وقيامها على شئون المنزل، تقول: لم أسمع منه كلمة عشرات السنين التي عشت معه، يقال لها: أنت تفعلين هذا من أجل الله فلا عليك، مع أننا نقول: إن هذه الكلمة لها أثر ينبغي للإنسان أن يلاحظ هذا المعنى، لكن نقول للطرف الآخر الذي يضجر وينقطع عن عمله: لا يضرك؛ لأنك تريد ما عند الله ، فإذا جعل الإنسان هذا الأمر بين عينيه وتذكره دائماً فإنه لا ينقطع بإذن الله من عمله الصالح المتعدي إلى الآخرين، اشتغلْ واعمل وأحسن وقدم، اعمل ما تستطيع، وابذل ما تستطيع ولا تنتظر من الآخرين شيئاً، أنت تريد ما عند الله، وهذه هي حقيقة الإخلاص.

 

 

  1. رواه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب طول القيام، برقم (1449)، بلفظ:فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، والنسائي، كتاب الزكاة، باب جهد المقل، برقم (2526)، وأحمد في المسند، برقم (15401)، وقال محققوه: "إسناده قوي"، وقال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2/105) بعد أن ذكر الحديث برقم (566): "هذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط مسلم غير أبي الجهم هذا"، وقال في صحيح أبي داود (5/193): "إسناده صحيح على شرط مسلم"، حديث رقم (1303).
  2. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب الصدقة عند الموت، برقم (2748).
  3. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ذهاب الصالحين، برقم (6436)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، برقم (1048).
  4. رواه الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، برقم (1163)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (2156). 11 - رواه ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله ﷺ، برقم (1625)، وأحمد في المسند، برقم (12169)، وقال محققوه: "حديث صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن سليمان التيمي اختلف عليه وخولف فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (868).