الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى الآية، أي: وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم بدون ذلك، ولهذا قال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ، كما قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ۝ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [سورة محمد:4-6]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:140-141]، فهذه حِكَم شَرَع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعاداً الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم، ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ [سورة القصص:43]، وقتْل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [سورة التوبة:14]، ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان، فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب - لعنه الله - بالعَدَسة، بحيث لم يقربه أحد من أقاربه.


العَدَسة، مرض بذرة مثل العدسة، مثل البذور في الجسم، تعدي بإذن الله ، ويموت صاحبه مثل الطاعون، ولذلك يقولون: إنهم رموا عليه الحجارة لأنهم خافوا أن يقتربوا منه عندما رأوا جسده.

كما مات أبو لهب - لعنه الله - بالعَدَسة، بحيث لم يقربه أحد من أقاربه إنما غسلوه بالماء قذفاً من بعيد، ورجموه حتى دفنوه، ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ أي: له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51] حَكِيمٌ فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته - - .


قوله - تبارك وتعالى - : وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى أي: نزول الملائكة، والبشرى غالباً تستعمل في الخبر الذي تطمئن إليه النفوس، وتُسرّ به، وقيل له ذلك: لظهور أثره أحياناً على بشرة المبشَّر، يظهر أثر السرور والفرح والبهجة إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة الأنفال:10]، وهذا الذي أخذ منه بعض أهل العلم ممن قال: إنهم لم يقاتلوا، وإن الله حصر العلة في نزولهم بهذا، قال: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى، فهي مجرد بشرى لطمأنينة القلوب، وقال : فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، قالوا: هذا الخطاب للمؤمنين وليس للملائكة، حتى تفهم وجه الاحتجاج، قالوا: إن الملائكة لم تقاتل، وإن نزولهم للتبشير والطمأنينة، وقوله: فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ، للتثبيت، وقوله : فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ، تعليم من الله للمؤمنين مواضع النكاية وكيف يفتكون ويثخنون في العدو، وهذا ليس بحجة في أن الملائكة لم تقاتل، وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى أي: أن نزولهم بشرى للقتال مع المؤمنين للتثبيت والبشرى والطمأنينة، وليس الملائكة الذين يقلبون كفة المعركة، ويتحقق النصر على أيديهم إطلاقاً، فالنصر من الله  : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:126]، فالكفار عددهم ألف، وأهل الإيمان ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، بل حتى في عهد النبي ﷺ الروم جمعوا مائتي ألف لقتال المؤمنين، فعددهم لا يساوي شيئاً مقابل الكفار، ولكن النصر من الله ، فالله يبتلي الناس على قدر ما عندهم من إمكانات، وما أعطاهم من قدر، فتجد ثلاثمائة وستة عشر أو سبعة عشر أو أربعة عشر، يقابلهم ألف، والآلات: رماح وسنان وسيوف ودروع ونحو ذلك.
 ونزول ألف من الملائكة، والكفار عددهم ألف، والملَك الواحد يمكن أن يقلب الأرض عليهم قلباً، فعن جابر بن عبد الله - ا -، عن النبي ﷺ قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام[1] سبعمائة سنة، هذه المسافة لملك واحد، وجبريل من أعظم الملائكة له ستمائة جناح، وهو وميكائيل معهم، فلا يساوي أبو سفيان ولا أبو جهل ولا جيشهما شيئاً أمام واحد منهم، لكن الله  يعلم خبايا النفوس، وما ركبت عليه وجبلت عليه، فإذا جاء هؤلاء الخبرَ الصادق أنه قد تنزل الآن ألف من الملائكة تقوى النفوس ويصبح الإنسان مقداماً لا يبالي بشيء، يضرب في الكفار بسيفه، وترتفع المعنويات، وإلا فالله يمكن أن يرسل إليهم ملكاً، ويمكن أن ينزل المطر عليهم فينشغلون بأنفسهم، فلا يستطيعون القتال ولا المشي ولا الحركة، فكيف بنزول الملائكة؟، فهذه أمور يجب على الإنسان أن يتأملها ويتعقلها، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إذا كان هؤلاء الملائكة لا يملكون النصر، فكيف بالبشر؟، فلا يلتفت إليهم ولا يركن إليهم، ولا يحسن الظن بأعداء الله أن ينصروه، ففي هذا عبرة بالغة، والله المستعان.
فائدة:
قال الله - تبارك وتعالى - في سورة آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ، وفي آية الأنفال وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى، بدون لكم، وقال: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وفي سورة آل عمران قال: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ، وقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126]، وقال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10]، هذا الفن يسمى المتشابه اللفظي، وتكلم عليه بعض العلماء في كتب خاصة مثل كتاب ملاك التأويل للغرناطي، وكتاب درة التنزيل وغرة التأويل للإسكافي، والبرهان للكرماني وغيرها، وبعض ما يذكرون لا يخلو من تكلف - والله تعالى أعلم - .

  1. رواه أبو داود برقم (4727)، كتاب السنة، باب في الجهمية والمعتزلة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/150)، برقم (151).