وقوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [سورة الأنفال:12] أي: ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم، بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي، فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12]، أي: اضربوا الهام، فَفَلقوها، واحتزوا الرقاب، فَقَطعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم، وقوله: فَوْقَ الأَعْنَاقِ [سورة الأنفال:12] قيل معناه: اضربوا الرءوس، وقيل معناه فَوْقَ الأَعْنَاقِ أي: على الأعناق، وهي الرقاب. قاله الضحاك وعطية العوفي، ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [سورة محمد:4]، وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به.
وقوله: وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] قال ابن جرير: معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم، والبنان جمع بنانة، وقال العوفي عن ابن عباس، فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل: لا تقتلوهم قتلاً ولكن خذوهم أخذاً حتى تعرّفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى، فأوحى الله إلى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] الآية، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً، فوفى ذلك سبعين - يعني قتيلاً -، ولهذا قال تعالى: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله أي: خالفوهما فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتّباعه في شق، ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين.
قوله – تبارك وتعالى -: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [سورة الأنفال:12] أي: مع الملائكة.
قوله: فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة الأنفال:12] جاء في بعض الروايات أن التثبيت كان بتكثير السواد، فكان أهل الإيمان يرون رجالاً لا يعرفونهم ويقاتلون معهم، وجاء في بعض الروايات أنه كان يأتي الواحد من الملائكة إلى الرجل من المسلمين فيقول: سمعت هؤلاء يقولون: إنهم لو عزموا وشدوا علينا شدة لانهزمنا، فيقوى عزمه، ويقدم على القتال.
ومما هو معلوم أن الشيطان له لِمّة على قلب ابن آدم، وقد أذهبها الله – تبارك وتعالى - وبقيت لِمّة المَلك فثبت أهل الإيمان.
وقد أخبر النبي ﷺ أصحابه بأنه رأى جبريل في خمسمائة من الملائكة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة، وحدد ﷺ قبل المعركة مصارع الكفار، فكل مثل هذه الأشياء تجعل الإنسان يقدم على عدوه غير هيّاب.
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة | يرى غمرات الموت ثم يخوضها |
قال : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ [سورة الأنفال:12]، الرعب: هو الخوف الشديد الذي يملأ القلب، والإنسان الخائف لا يثبت في أرض المعركة، وقد قال النبي ﷺ: نصرت بالرعب مسيرة شهر[1]، وهذا لا يختص بالنبي ﷺ بل لأتباعه من بعده حظ من ذلك على قدر ما عندهم من الاتباع والإيمان والاستقامة على الصراط المستقيم، فيخافهم أعداؤهم ويرهبون منهم على قدر ما عندهم من الاستقامة.
قال ابن كثير – رحمه الله - في قوله:فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ [سورة الأنفال:12]: "أي: اضربوا الهام، فَفَلقوها، واحتزوا الرقاب، فَقَطعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم" وهذا من أحسن ما فسرت به هذه الآية، فقد جمعت عبارة ابن كثير المعاني التي قالها السلف وهي التي تحتملها الآية، فالعنق، هي الرقبة، والله يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [سورة محمد:4]، وقال بعض السلف: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ أي: اضربوا رءوسهم، ويحتمل أن يكون: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ بمعنى اضرب على العنق، ويحتمل أنه علمهم مواضع القتل الذريع والفتك الشديد بحيث إذا ضرب ذلك الموضع بالسيف طار الرأس، وذلك في أعلى الرقبة تحت العظم الذي تحت الأذن، وعبارة ابن كثير قد جمعت بين كل هذه الأقوال، وهو اختيار ابن جرير.
والخطاب في قوله: فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ يحتمل أن يكون موجهاً للمؤمنين، ويكون المعنى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا أيها المؤمنون فوق الأعناق، والأقرب - والله أعلم - أن الخطاب للملائكة.
قوله: وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] البنان: هي الأطراف، فإذا قطعت الأطراف انشلت حركة الإنسان، ولا يستطيع أن يقاتل.
- رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (1/168)، برقم (427)، ورواه مسلم، كتاب المساجد، (1/372)، برقم (523).