الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلْأَدْبَارَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ۝ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الأنفال:15-16].
يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً : أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم، فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ أي: تفروا وتتركوا أصحابكم، وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أي: يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك، نص عليه سعيد بن جبير والسدي، وقال الضحاك: أي يتقدم على أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها.
أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ، أي: فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه، فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة، قال عمر بن الخطاب   في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيز إليّ لكنت له فئة. هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر، وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال: لما قتل أبي عبيد قال عمر: أيها الناس أنا فئتكم، وقال مجاهد: قال عمر: أنا فئة كل مسلم، وقال عبد الملك بن عمير عن عمر: أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر، وأنا فئة لكل مسلم، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا حسان بن عبد الله المصري، قال: حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر، قلت: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا، ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا؟، فقال: إن الفئة رسول الله ﷺ فقلت: إن الله يقول: إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً الآية، فقال: إنما أنزلت هذه الآية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها.
وقال الضحاك في قوله: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ المتحيز الفار إلى النبي ﷺ وأصحابه وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر؛ لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات[1] ولهذا قال تعالى: فَقَدْ بَاء أي: رجع بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ أي: مصيره ومنقلبه يوم معاده جهنم وبئس المصير.


قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] الزحف: هو الدنو شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، وأصله الاندفاع على الإلية، وقيل ذلك للجيش؛ لأن العدد الكثير إذا رأيتهم من بعيد كأنهم وقوف لا يتحركون، وحركتهم بطيئة جداً.
وقوله: زحفاً: يمكن أن يكون حالاً من الكفار، يعني إذا لقيتم الذين كفروا زاحفين، ويمكن أن يكون حالاًَ من المؤمنين، ويكون المعنى: إذا لقيتم الذين كفروا في حال كونكم زاحفين إليهم، ويحتمل أن يكون حالاً من الفريقين، يعني متزاحفين، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - .
 قوله – تبارك وتعالى - : فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [سورة الأنفال:15] هذا نهي، والنهي للتحريم، ويدل على أن الفرار من الزحف من كبائر الذنوب، ويدل على ذلك ما ذكر في قوله – تبارك وتعالى - : وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الأنفال:16] وتولية الدبر كناية عن الانهزام؛ لأن المنهزم يدير ظهره لعدوه، ولهذا يفتخر الشجعان والأبطال بأن دماءهم لا تسيل على ظهورهم، وإنما على أقدامهم، كما قال ابن الزبير لما شج وجهه - ضُرب بالمنجنيق وأصاب بعض السواري في المسجد الحرام، فأصيب وجهه فنزل الدم على قدميه، فتمثل بهذا البيت:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدم

وذهب طائفة من أهل العلم - وهو منقول عن عمر وابن عمر وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وبه قال أبو حنيفة - إلى أن الفرار من الزحف كان محرماً في يوم بدر خاصة، وكان عمر يقول: أنا فئة كل مؤمن، والله يقول: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الأنفال:16] وعمر  كان في المدينة، والفتوح كانت في العراق وفي الشام.
واحتجوا أيضاً بحديث عن ابن عمر - ا - قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية فحاص الناس حيصة فقدمنا المدينة فاختبينا بها وقلنا هلكنا، ثم أتينا رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله، نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكّارون وأنا فئتكم[2] والعكَّار: هو الذي يرجع مرة ثانية إلى عدوه.
واستدلوا بقوله: وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قالوا: إن هذه الآية مختصة بيوم بدر، وقالوا: إن المسلمين إذا انهزموا ليس لهم مكان يتحيزون فيه وقد قال النبي ﷺ : إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض[3]، أما بعد النبي ﷺ فيأتون إلى الإمام.
وهذا فيه نظر، فالمسلمون كانوا في المدينة وكثير من الصحابة لم يخرجوا مع النبي ﷺ  والذي عليه الجمهور من أهل العلم: أن الفرار من الزحف من الكبائر، ولا يجوز ذلك، وقد ذكره النبي ﷺ من السبع الموبقات.
وليس المقصود بقوله – تبارك وتعالى - : وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ يوم بدر، بدليل أن الآيات نزلت بعد عزوة بدر، فالراجح – والله أعلم - أنه لا يجوز الفرار من الزحف إلا إذا كان الكفار أكثر من ضعف المسلمين، قال – تبارك وتعالى - : إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا [سورة الأنفال:65] ثم قُيَّد هذا الحكم بقوله – تبارك وتعالى - : الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ [سورة الأنفال:66]
وقد قال عمر في يوم الجسر: "لو انحازوا إليّ لكنت فئتهم"، وكان قائدَ المسلمين في يوم الجسر أبو عبيد الثقفي، وكان النهر بين المسلمين وبين الفرس، فجاء خطاب من قائد الفرس يستفز فيه أبا عبيد، فعبر أبو عبيد مع الجيش الجسر، فاستشهد أبو عبيد وحصل قتل ذريع في المسلمين، وتفرق الناس وانهزموا، وانقسموا إلى أقسام، منهم من ذهب ولم يستطع الرجوع إلى المدينة حياءً من الله وخوفاً، ومنهم من جمع الفلول من أجل مواجهة جديدة، فقال عمر هذه المقولة: "لو انحازوا إليّ لكنت فئتهم"، وقد كان بإمكان المسلمين أن ينسحبوا؛ لأن عدد الكفار أضعاف المسلمين.
وقد انحاز خالد بن الوليد بالجيش في يوم مؤتة؛ لأن جيش الروم كان مائة ألف وكان عدد جيش خالد ثلاثة آلاف.

  1. رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10] (3/1017)، برقم (2615)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/92)، برقم (89).
  2. رواه الترمذي، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الفرار من الزحف (4/215) برقم (1716)، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب التولي يوم الزحف (3/46) ، برقم (2647)، وأحمد (2/100)، برقم (5752)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5 / 27).
  3. رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (3/1383)، برقم: (1763).