يبيّن تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه، ولهذا قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ أي: ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123] الآية، وقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [سورة التوبة:25]، يُعلم - تبارك وتعالى - أن النصر ليس على كثرة العدد، ولا بلبس اللأمة والعُدد، وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:249]، ثم قال تعالى لنبيه ﷺ أيضاً في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه[1] ثم أمر أصحابه أن يصْدقوا الحمْلة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، ولهذا قال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى أي: هو الذي بلّغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت.
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً أي: ليُعَرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته، وهكذا فسره ابن جرير أيضاً، وفي الحديث: وكل بلاء حسن أبلانا[2].
وقوله: إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ : أي سميع الدعاء، عليم بمن يستحق النصر والغلب".
- رواه مسلم برقم (1777)، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين.
- رواه النسائي في السنن الكبرى (6/82)، برقم (10133)، وابن حبان في صحيحه (12/22)، برقم(5219)، والبيهقي في الشعب (6/218)، برقم (4067)،وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/242)، للإمام أبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي - بيروت، ط4، سنة النشر: 1405هـ، كلهم من حديث أبي هريرة ، وقال الشيخ مقبل الوادعي: حسن على شرط مسلم كما في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين برقم (1326)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (1/765).