بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى - : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ أي: لم تقتلوهم بحولكم وقوتكم وعددكم، وإنما قتلهم الله ، وهذا لا إشكال فيه، وأما قوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: أي: هو الذي بلّغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت، وهذا تفسير أهل السنة لهذا الآية، بلّغ ذلك إليهم، وليس نفياً ولا يدل ذلك على عقيدة الجبرية، قال: وكبتهم بها لا أنت، فيكون المعنى أن الله أثبت للنبي ﷺ الرمي، ولكن الذي بلّغ هذه الرمية إلى الكفار ففعلت فعلها هو الله ، فالرمي من النبي ﷺ وأثر هذا الرمي من الله، فهذا الرمي الذي رمى به ﷺ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ليس ذلك نفياً للرمي من أصله عن النبي ﷺ ولكن نفي لهذا الرمي بهذا الأثر، وذلك أن النبي ﷺ أخذ حفنة من تراب ثم رماها في وجوههم، فكان ذلك سبباً لهزيمتهم، دخل هذا في عيونهم، ومن أهل العلم كالإمام مالك - رحمه الله - من يقول: إن هذا كان في يوم حنين، وذلك أن أصحاب النبي ﷺ لما انهزموا وما بقي معه إلا نحو عشرة، أخذ حفنة من التراب ثم رمى بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد منهم إلا دخل في عينيه من هذا التراب فانهزموا، وهذا وإن كان قد وقع في يوم حنين، إلا أن هذه الآيات تتحدث عن يوم بدر، وهكذا قول من قال: إن المقصود تلك الرمية التي رمى بها النبي ﷺ بالحربة حينما ضرب أبي بن خلف في يوم أحد، وكان ذلك سبباً لموته في الطريق حينما كانوا راجعين إلى مكة، أو قول من قال: إن ذلك حينما رمى النبي ﷺ بسهم في يوم خيبر فأصاب به مَن وراء الحصن، أصاب به ابن أبي الحقيق، ولكن هذا في ثبوته نظر، وليست الآيات في هذا، والراجح أن هذا كان في يوم بدر، وسياق الآيات كله في بدر، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى قال ابن كثير: أي هو الذي بلّغ ذلك إليهم.
قوله: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً قال: أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته، والإبلاء: بمعنى الإنعام، أي: لينعم عليهم ويتفضل عليهم، بإظهارهم على عدوهم، وكبت هذا العدو، وقد استحر القتل فيهم على أيدي أصحاب النبي ﷺ ، وحصل الظفر، والنصر الكبير، والغنيمة التي حازوها من الكفار، فأبلاه: يقال في الخير، وابتلاه: غالباً في الشر، أو في المكروه، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً أي: لينعم عليهم ويتفضل عليهم بحصول هذه الأمور المطلوبة المحبوبة لهم، وقوله: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ يقول: هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد عدوهم فيما يستقبل، والإشارة في قوله: ذَلِكُمْ يحتمل أن تعود إلى البلاء الحسن؛ لأن الله موهن كيد الكافرين، فهذا الإبلاء هو قتلهم، وهزيمتهم، وإظهار المؤمنين عليهم، ذَلِكُمْ أي: الإبلاء الحسن، وقيل: إن الإشارة عائدة إلى القتل الذي وقع والرمي، قتلهم الله وأوصل التراب حتى دخل في أعينهم؛ من أجل كسرهم وإذلالهم وإضعاف قوتهم، وهذه المعاني صحيحة، ويمكن أن تحمل الآية على الجميع كما قال كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - ، فالقتل الذي وقع وإيصال الرمي بالتراب إليهم وهزيمتهم؛ لإذلالهم وإضعاف قوتهم، وكسرهم، ولهذا قال الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [سورة التوبة:14- 15] كل هذه الأمور تحصل لمجاهدتهم، وقتالهم ولا شك أن حصول هذه الأمور على أيدي المؤمنين أشفى للصدور.