يقول تعالى للكفار: إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تستنصروا وتستقضوا الله.
تستقضوا الله أي: تطلبون منه القضاء، فالسين والتاء للطلب، تستقضوا الله: يعني تطلبون أن يقضي بينكم وبين عدوكم.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقْطعُنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان المستفتح. وأخرجه النسائي في التفسير، وكذا رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وروي نحو هذا عن ابن عباس - ا - ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد.
وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فقال الله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ يقول: قد نصرت ما قلتم وهو محمد ﷺ.
قوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ السين والتاء للطلب يعني: تطلبوا الفتح، والْفَتْحُ أي: الحكْم، ويقال للحاكم فاتح، ويقال للحكْم أيضاً فتاحة، يُقال: "فإني عن فتاحتكم غني".
أي: عن حكمكم غني، ويقول بعض العلماء: تسمية الحكْم بالفتح، هذا في لغة حمير، وهي لغة عربية صحيحة جاءت في القرآن، كما قال الله عن شعيب وقومه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:89]، افتح بيننا وبينهم أي: احكم بيننا وبينهم بالحق، وفي نفس القصة ذكر الله عن شعيب ﷺ قوله: وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا [سورة الأعراف:87]، فالشاهد: حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا هذا مفسر لقوله: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ يعني احكم بيننا وبين قومنا بالحق، إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تطلبوا الحكم والقضاء بين الفريقين، فقد جاءكم الحكم، وهو هذه الهزيمة الساحقة، وقتل هؤلاء الصناديد الكبراء، ومن أراد أن يعرف حقيقة ما جرى في يوم بدر فليقرأ في السيرة مثل سيرة ابن هشام مثلاً، أبداً لا يكاد يخطر في بالك أحد من الكبراء، وإن كنت لا تعرف من هم الكبراء فإذا قرأت أول مسير المشركين إلى بدر فستعرف من هم الكبراء ومن هم المطعمون العشرة، نعم، فلا يمر عليكم اسم من أسماء هؤلاء الكبراء إلا وقد ذكر في القتلى، ومن لم يذكر في القتلى فستجده في الأسرى، شيء هائل، يقف الإنسان عنده متفكراً: كل هذا قد وقع وهو لا يخطر في البال، ولا يدور في الخيال، مع ما هم فيه من التحصن والتحرز والقوة والكثرة والغرور، حتى إن أبا جهل جاء وحوله كوكبة من المدججين بالسلاح، وحتى إنهم ليقولون: إن أبا جهل كالحرجة، من كثرة من يحيط به، - والشجر الملتف الذي له شوك ولا يستطاع التوصل إلى منتهاه أو إلى وسطه يقال له: حرجة - وكل ذلك قد أذهبه الله وولوا الأدبار، واقرءوا ما قيل في هذا من الأشعار وما قيل في هجائهم، ما قاله حسان بن ثابت وغير حسان، ذهبوا وتركوا الإخوان والأحباب والقادة والسادة على الأرض ثم سحبوا بعد ثلاثة أيام إلى القليب، حتى ما دفنوا، السادة العظام يسحبون بعد ثلاثة أيام بعدما جيفوا، يسحبون سحباً إلى القليب.
وصح في قوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ سبب النزول الذي أورده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قول أبي جهل حين التقى القوم: اللهم أقطعُنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتِح، وأبو جهل هو القائد وهو كبيرهم، فيكون ذلك استفتاحاً منهم، استفتاح أبي جهل هو استفتاح من المشركين، ولذلك أضافه إليهم فقال: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ؛ لأن ذلك جرى على مقدمهم وكبيرهم وقائدهم، فنسب ذلك إليهم، فأحنه معنى الأحن الهلاك والمحْق والاستئصال، فأحنه: امحقه أي: أهلكه.
قد يأتي في كتب التفاسير أقوال لا وجه لها إطلاقاً، وهذا دليل على تباين الأفهام، ومن ذلك قول البعض في قوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ، وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ : إن بعضها راجع إلى المؤمنين، وبعضها يرجع إلى الكفار، وبعضهم يقول: هذه تتعلق بالمؤمنين يوم أخذوا الغنائم، وإن تعودوا إلى أخذ الغنائم نعد إلى معاتبتكم، يقول الله : فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ، وهذا في غاية البعد، والسياق لا يدل عليه لا من قريب ولا من بعيد.
قوله: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا، وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ أي: إن تعودوا إلى قتال المؤمنين، إن تعودوا إلى الاستفتاح، كل ذلك وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ فعادوا إلى كفرهم وعادوا إلى قتال المؤمنين، وجاءوا في يوم أحد فقتل منهم سبعون في أول المعركة، وهزموا شر هزيمة، وسقط اللواء، وأخذته جارية وحملته، كما قيل في هجائهم:
وعبد الدار سادتهم الإماء.
وفر الرجال والنساء وكان في النساء هند بنت أبي سفيان، شاهدها الصحابة، وهي تشتد في الجبل منهزمة، وما كان دون أخذهم إلا الشيء اليسير، ثم وقع ما وقع من عصيان للنبي ﷺ، فحصل ما حصل من الهزيمة وتغيرت موازين المعركة.
وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي.
هذا أصل كبير ينبغي أن يعقله أهل الإيمان، أن الكفار مهما كانت أعدادهم، لا تغني عنهم ولا تدفع عنهم بأس الله ولا القتل ولا الهزيمة على يد المؤمنين إن كانوا محققين للإيمان، ولهذا قال: وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل: وأن الله مع الأوس والخزرج، وإنما ربط ذلك بالإيمان، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فمعيّة الله للمؤمنين على قدر تحقيقهم للإيمان، فإذا كانوا محققين للإيمان، وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من قوة - والله لا يكلف نفساً إلا وسعها - فإنه مهما تمالأ أهل الأرض عليهم، ومهما كان عند العدو من العُدد والعَدد فإن ذلك لا يغني عنهم شيئاً، فالله ينصر أولياءه، والواقع شاهد كبير بهذا، ولم يكن ذلك لأصحاب النبي ﷺ فحسب، وإنما لكل تابع لآثارهم ومقتفٍ لطريقتهم وسنتهم، فله من ذلك نصيب.