الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30].
قال ابن عباس - ا - ومجاهد وقتادة: لِيُثْبِتُوكَ ليقيدوك.
وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق.
وروى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس - ا - قال، وحدثنا الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس - ا - : أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأرد أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل، ادخل فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليه أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا، قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم، حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله، فانظروا رأياً غير هذا، قال فقال أبو جهل لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، قال فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره، قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل النبي ﷺ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله ﷺ في بيته تلك الليلة، وأذن الله عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، وأنزل في قولهم: تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [سورة الطور:30]، فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، للذي اجتمعوا عليه من الرأي[1]. وعن السدي نحو هذا السياق.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أي: فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله - تبارك وتعالى - : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أي: واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا، والمكر: وهو التدبير في الخفاء، لِيُثْبِتُوكَ المشهور أنه بمعنى الحبس، كما جاء في هذه الرواية التي أوردها المصنف - رحمه الله - من طريق الكلبي، قال في أول ما ذكر: احبسوه في وثاق، ومن أهل العلم من فسر ذلك بالجراح، تقول: أثبتته الجراح، ولعله يرجع إلى المعنى الأول، فيكون المعنى لِيُثْبِتُوكَ أي: يقيدوك ويحبسوك فلا تظهر دعوة إلى الناس، وينتظرون حتى يموت.
وقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أن الله - تبارك وتعالى - يمكر بهؤلاء الماكرين والظالمين، والمجرمين والكافرين، ويكون تدبيرهم الذي دبروه وبالاً عليهم، كما في قول الله  : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36]، فالله له القدرة التامة والعلم الكامل، والحكمة، يصرف الأمور على وفق علمه وحكمته وإرادته، وإن تبيّن في ظاهر الأمر أو في مبادئه خلاف ذلك للناس، لكنه ينكشف في العاقبة عن أمر لا يخطر لهم على بال، ولا يتصوره هؤلاء الكفار، وهو أمر مشاهد، وإلا لو كان مكر الكفار المكر الكبار، لو كان يتم لهم على وفق ما أرادوا وخططوا لم يبق للإسلام بقية، يقول ابن القيم - رحمه الله - :

والله لولا الله حافظ دينه وكتابه لتهدمت منه قوى البنيان[2].

لا يبقى شيء على كثرة هذا المكر والكيد عبر التاريخ، سواء لشخص النبي ﷺ أو لهذا الدين، ولكن الله يمكر بهؤلاء فيوقعهم في شر العواقب في مغبة فعلهم ومكرهم وتدبيرهم الذي دبروه.

  1. ذكره الإمام السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول (97)، وابن القيم في زاد المعاد (3/45)، بتحقيق الأرناؤوط، والإمام الطبري في تفسيره (13/494)، برقم (15965).
  2. متن القصيدة النونية (22)، للإمام ابن القيم.