الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
إِذْ أَنتُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَنۢ بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأنفال:42].
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفرقان إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا أي: إذ أنتم نزولٌ بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة، وَهُم، أي: المشركون نزولٌ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى أي: البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة وَالرَّكْبُ أي: العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أَسْفَلَ مِنكُمْ أي: مما يلي سيف البحر، وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ أي: أنتم والمشركون إلى مكان لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، قال محمد بن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه في هذه الآية قال: ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم، وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله عن غير ملأ منكم، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه.
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله ﷺ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: وبعث رسول الله ﷺ حين دنا من بدر- علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر، فأصابوا سقاة لقريش غلاماً لبني سعيد بن العاص، وغلاماً لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله ﷺ فوجدوه يصلي، فجعل أصحاب رسول الله ﷺ يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجَوْا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتين ثم سلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى،   - والكثيب العقنقل - ، فقال لهما رسول الله ﷺ: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: ما ندري قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال رسول الله ﷺ: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن
عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام  وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ودّ، فأقبل رسول الله ﷺ على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها[1].
وقوله: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [سورة الأنفال:42] قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، وهذا تفسير جيد، وبسْطُ ذلك: أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهراً والحجة قاطعة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه، وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ أي: يؤمن من آمن عَن بَيِّنَةٍ أي حجة وبصيرة، والإيمان هو حياة القلوب، قال الله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام:122] وقالت عائشة - ا - في قصة الإفك: فهلك فيّ من هلك. أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك.
وقوله: وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به،عَلِيمٌ أي: بكم، وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.


فقوله - تبارك وتعالى - : إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [سورة الأنفال:42]، المقصود بالعدوة الدنيا: شاطئ الوادي، فكل ناحية من نواحي الوادي يقال لها: عدوة.
قال: وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [سورة الأنفال:42] هذا توصيف لمواقع الطوائف الثلاث في أرض المعركة، ومن كان خارجاً عنها وهم عير أبي سفيان، فقد كانوا في ناحية الساحل، ولم يكن المسلمون يعرفون موقع العير حينما كانوا ببدر، فصادفهم الجيش، والركب جمع راكب ولا يقال ذلك إلا لراكبي الإبل. 
وقول ابن كثير – رحمه الله - : "والكثيب العقنقل" أي: الكثيب العظيم من الرمل المتداخل.
قوله: لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ [سورة الأنفال:42] أي: ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، فقد كان أهل الإيمان ضعفاء ولم يكن لهم ظهور وكانت العرب تسمع من قريش، ولا تعرف عن المسلمين إلا أنهم من الصابئين الذي صبئوا وتركوا دينهم ويسمعون عنهم سيئ القول الذي تذيعه قريش، فلما انتصر المسلمون ظهر أمرهم واتضح وبان، ولم يعد فيه لبس ولا غبش ولا غموض، فمن أراد الحق فدلائله ظاهرة وواضحة.

  1. انظر السيرة النبوية، لابن هشام (3/164).