يقول تعالى: ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فضيعاً منكراً إذ يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم: وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ.
قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ حذف الجواب، وحذف الجواب في مثل هذا المقام أبلغ للتهويل والتعظيم؛ ليذهب الذهن معه كل مذهب، ماذا تتصور لو رأيت هذا، لرأيت أمراً هائلاً عظيماً فضيعاً، هذا هو التقدير، وهذا معروف في كلام العرب ولا يزال الناس يستعملونه إلى اليوم، تقول: لو تعلم ما ينتظرك، أي: لحسبت أو جزعت أو غير ذلك من المعاني التي يمكن يذهب إليها الذهن، كما قال حسان : لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا، فذكر الجواب هنا، لكن قد يقول قال: لو كان المشركون يعلمون ما ينتظرهم، لو يعلم الظالم ما ينتظره، يعني لخاف، ولتاب، لا لكف عن ظلمه، فحذف الجواب في هذا أبلغ، - والله أعلم - .
وذكر الحافظ ابن كثير قال: لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فضيعاً منكراً، وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ، من أهل العلم من قال: إن هذا في غزوة بدر، فالذين قتلوا في غزوة بدر من المشركين قتلتهم الملائكة بهذه الطريقة، يضربون وجوههم وأدبارهم، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة، يميزونهم فيكون مثل ضرب السوط، يكون قد ختم وجهه أو نحو ذلك، وقد ازرق أو اخضر، فهؤلاء قتلى الملائكة، فبعض أهل العلم فسره بهذا وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أن هذا كان في أرض المعركة، وبعضهم حمله على ما هو أعم، وهذا هو الأقرب - والله أعلم -، كما قال الله : وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93]، فالملائكة يستخرجون أرواح الكفار بهذه الطريقة؛ لأنه قرينه، فليس المقصود به في يوم بدر في القتل الذي حصل، وذكر التوفي، والعادة أنه يعبر بالقتل، فيكون معنى قوله: إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أي: عند استخراج نفوسهم وأرواحهم، ومن أهل العلم من يقول: إن هذا في الآخرة، حين يساقون إلى النار، ومثل هذا لا يعبر عنه بالتوفي إِذْ يَتَوَفَّى يعني في حال الوفاة، فتستخرج أرواحهم كما وصف النبي ﷺ يزجر زجراً عنيفاً: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول[1]، يخرج معها العصب والعروق، حسبنا الله ونعم الوكيل.
كنى بالأدبار عن ذلك، ويعبر بالأدبار عن مؤخر الإنسان عموماً لقول الله : وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [سورة الأنفال:16] أي: ظهره، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَ [سورة الأنفال:50]، أي: يضربونه من وجهه ومقدمه ويضربونه من خلفه.
قوله: بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ يفسر البسط بالضرب، كما قال الله عن الكفار وعداوة الكفار قال: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ [سورة الممتحنة:2] يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم، هم أعداء أصلاً، والله يقول: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء فالعداوة مستحكمة في قلوبهم، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أي: أن هذه العداوة تتحول إلى فعل، والله قال عن اليهود: وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119] من شدة ما يجد يعض أنامله، وقوله: يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء الثقف هو الحذق في إدراك الشيء، وهذه العداوة مشاهدة كما يقع على مر العصور والأزمان وفي هذه الأيام، سواء في ذلك اليهود والنصارى، وطوائف الكفار من الوثنيين أو المجوس أو غير هؤلاء، ومن ذلك أن الإنسان يقتل بالدريل في رأسه وهو حي، ومن أنواع التعذيب الذي يبين عداوة هؤلاء أنهم يجردونهم من ملابسهم ويضربونهم الضرب الشديد، وبفعل الفاحشة فيهم، سرقة الأعضاء، وتعليق وتعذيب بالكهرباء، وغير ذلك، وأمور لا يمكن أن يتخيلها الإنسان، كل أنواع التعذيب التي يمكن أن يصل إليها الشيطان يفعلونها بهم، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء يذهب الكلام المعسول والكلام الجميل والمجاملات، وحقوق الإنسان والإنسانية، والحرية والديمقراطية والمثل التي طال ما يتشدقوا بها إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء فقبحهم الله.
- رواه الإمام أحمد في المسند (30/501)، برقم (18534)، من حديث البراء بن عازب، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح، والبيهقي في الشعب (1/355)، برقم (395)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (158)، وفي صحيح الجامع برقم (1676).
- رواه أحمد في المسند (30/501)، برقم (18534)، لكن زيادة: إلى سموم وحميم وظل من يحموم، لم ترد فيه وإنما لفظه: إلى سخط من الله وغضب، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).