الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ۝ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة الأنفال:64-66]
يحرض تعالى نبيه ﷺ والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم؛ أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين، ولهذا قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ أي: حثهم أو مرهم عليه، ولهذا كان رسول الله ﷺ يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عَددَهم وعُدَدهم قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فقال عمير بن الحمام  : عرضها السماوات والأرض، فقال رسول الله ﷺ : نعم فقال: بخ بخ، فقال: ما يحملك على قول بخ بخ، قال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها. فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهم ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل   [1]، ثم قال تعالى مبشراً للمؤمنين وآمراً إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ كل واحد بعشرة، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة، قال عبد الله بن المبارك: حدثنا جرير بن حازم قال: حدثني الزبير بن الخريت عن عكرمة عن ابن عباس - ا - قال: لما نزلت: إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف، فقال: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ إلى قوله: يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ، قال: خفف الله عنهم من العدة، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم"، وروى البخاري من حديث ابن المبارك نحوه[2].
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفاً، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى، فقال: الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ حسبك الله أي: كافيك الله، وقوله: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فسره بعضهم باعتبار أن الواو عاطفة على لفظ الجلالة، فيكون المعنى: حسبك الله وحسبك من اتبعك من المؤمنين، كافيك الله ومن اتبعك من المؤمنين يكفونك، وهذا المعنى نقل عن الحسن البصري، وممن قال به من النحاة المشاهير النحَّاس، وذلك أنهم قالوا: بأنه لا يجوز أن يكون العطف على الضمير المخفوض إلا مع إعادة الخافض، حَسْبُكَ الكاف مضاف إليه مجرور، حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قالوا: إنه لا يصح في اللغة أن تكون الواو وَمَنِ عاطفة على الكاف، وإذا كانت عاطفة على الكاف يكون الحسب، والكافي هو الله وحده، ويكون المعنى: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله كافيك وكافي من اتبعك، فالمعنى الأول قالوا: حَسْبُكَ اللّهُ يكفيك الله ويكفيك أتباعك من المؤمنين، فصارت الكفاية من الله، ومن المؤمنين للنبي ﷺ، والواو بهذا الاعتبار عاطفة على اسم ظاهر، وهو لفظ الجلالة (اللّهُ) الله يكفيك وأهل الإيمان من أتباعك يكفونك، والمعنى الثاني: أن يكون الواو عاطفة على الكاف، حسبك أي: كافيك وكافي من اتبعك، وهذا المعنى هو المتعين، بغض النظر عن الموضع الذي يكون عليه العطف، على الكاف، أو الواو واو مع، حَسْبُكَ اللّهُ فالكفاية والحسب من الله وحده لا شريك له، لا يملكها أحد سواه، فالتوكل يكون عليه وحده، ولهذا قال الله : هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال:62]، فالتأييد يكون من الله بالنصر، ويكون أيضاً بأهل الإيمان، وكذلك أيضاً مما يدل على هذا المعنى أن الكفاية من الله وحده: أن الله في آيات أخرى فرق بين الحسب وبين غيره كالتأييد، هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ هذا في التأييد، وغيره وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ [سورة التوبة:59]، فالإيتاء من الله ومن الرسول ﷺ، فلم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل قالوا: حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ، فالإيتاء من الله ومن الرسول ﷺ، والتأييد يكون بأهل الإيمان، ويكون من الله بالنصر الذي ينزله بطريقة يختارها ويشاؤها، وأما الحسب فهو من الله وحده، لا يكون من أحد سواه، فثبت هذا المعنى، ودل عليه القرآن، فلا محل لاعتراض من اعترض من النحاة، كما أنه يوجد من النحاة من يخالف هؤلاء في قولهم هذا، وابن مالك - رحمه الله - عقد هذا المعنى في الخلاصة بقوله:

وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازماً قد جعل

هذا المعنى على قول النحَّاس: لا بد أن يكون الخفض لا يعود على ضمير إلا مع عود الخافض، لكن ابن مالك رده واختار غيره: أن ذلك يجوز في اللغة كما في قوله:

وليس عندي لازماً إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتاً.

فالذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين، والذي اختاره ابن جرير الطبري وابن القيم والشنقيطي - رحمهم الله - وغيرهم أن قوله: حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: أن الله كافيك وهو كافي من اتبعك.

  1. رواه مسلم برقم (1901)،  كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد.
  2. رواه البخاري برقم (4376)، كتاب التفسير، باب الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا.