ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين - خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك - وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، ولهذا آخى رسول ﷺ بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس - ا -.
روى الإمام أحمد عن جرير - هو ابن عبد الله البجلي - قال: قال رسول الله ﷺ : المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة [1]، تفرد به أحمد، وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه فقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [سورة التوبة:100] الآية، وقال: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [سورة التوبة:117] الآية، وقال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:8-9] الآية، وأحسن ما قيل في قوله: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فسر الحافظ ابن كثير – رحمه الله - قول الله – تبارك وتعالى - أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة الأنفال:72] بتفسير فيه شيء من الإجمال، فقال: "أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد"، فتحتمل العبارة أن يكون المراد أحق بالآخر أي من جهة الميراث، هذا يشعر به ما أورده بعده من المؤاخاة التي عقدها النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، فهذه أخوة خاصة يحصل بها التوارث، كما أن العبارة تحتمل أنهم أولياء بعض من جهة النصرة والمعونة، وقد حمل طائفة من السلف الآية على التوارث في الميراث فقالوا: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ، أي: في التوارث في الميراث، كما كان الأمر عليه في أول الأمر، فكان الأنصاري يرثه أخوه من المهاجرين دون قراباته من الأنصار، وهذا القول هو ظاهر كلام ابن كثير – رحمه الله - ويحتمل أن معنى قول الله – تبارك وتعالى - : بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ، أي: في النصرة والإعانة وغيرها من المعاني الداخلة تحت الموالاة وهو اختيار ابن جرير – رحمه الله -.
وحمل الآية على المواريث يدل على أنها منسوخة بقول الله-تبارك وتعالى- : وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [سورة الأحزاب:6]، ويحتمل أن يكون الناسخ هي الآية التي في آخر هذه السورة وهي قوله – تبارك وتعالى - : وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنفال:75]
أما إذا حملنا الآية على النصرة والإعانة، فالتوارث الذي كان بين المهاجرين والأنصار ثبت بالسنة النبوية ونسخ بقول الله - تبارك وتعالى - : وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [سورة الأحزاب:6]، وبقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنفال:75]، وهذا من نسخ القرآن للسنة، كما في نسخ التوجه إلى بيت المقدس، فقد نسخ بالقرآن.
ولعل هذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - وهو أن قول الله – تبارك وتعالى - : أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ليس في المواريث، وإنما هو في الموالاة، ولهذا قال بعدها: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال:73].
وقد أورد المصنف قول الله – تبارك وتعالى -: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً [سورة الحشر:9]، وقال في معناها: "أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم" وهذا كلام مجمل من العلامة ابن كثير – رحمه الله -.
ولما فتح الله عليه النضير، خيَّر النبي ﷺ الأنصار، أن يبقى المهاجرون في أرضهم فيقسمها النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، أو أن يخرج المهاجرون من أرضهم، فيقسمها بين المهاجرين خاصة، فقالوا: بل يبقون في أرضنا وتقسمها بينهم خاصة دوننا، ولهذا قال الله : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9].
قوله: مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنفال:72] يحتمل أن يكون المراد بهذه الآية الميراث، ويحتمل أن يكون المراد بها النصرة، وابن جرير - رحمه الله - حملها على الأمرين، ولم تكن مسألة التوارث متعلقة بالهجرة، وإنما كانت تتصل بالمؤاخاة، فالآية – والله أعلم - يراد بها النصرة، ويكون المعنى ما لكم من أمر ولايتهم ونصرتهم من شيء حتى يهاجروا.
(مسألة) قول النبي ﷺ: لا هجرة بعد الفتح[3] لا يدل على انقطاع الهجرة فحكمها باقٍ إلى قيام الساعة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد يهاجر الإنسان من بلد الإسلام إذا لم يجد مجالاً للدعوة إلى الله – تبارك وتعالى - والتعريف المشهور للهجرة - أنها الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام - فيه نقص، وهو نوع من أنواع الهجرة.
الأعراب الذين بقوا في بواديهم ولم يهاجروا، والذين بقوا بين الكفار ولم يهاجروا إلى النبي ﷺ ليس لهم من الغنيمة ولا الفيء، ولهم النصرة بشرط ألا يكون بين المسلمين وبين الكفار ميثاق.
- رواه أحمد (31 / 547)، برقم (19215)، وقال محققو المسند: صحيح.
- رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (3 / 1356)، برقم (1731).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية (3 / 1040)، برقم (2670)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير (3 / 1487)، برقم (1353).