كما جاء في قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة الحشر:10].
جعل الله هذه الأمة منقسمة إلى مهاجرين وأنصار، ومن يسيرون على طريقتهم، فقال – سبحانه - وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة:100] فمن لم يكن من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين اتبعوهم بإحسان ممن يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة الحشر:10]، بل يمتلئ قلبه غلاً على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فماذا سيكون؟ ولهذا قال الإمام مالك - رحمه الله - : إن الرافضة لا نصيب لهم في الفيء؛ لأن الله جعل الطوائف التي تستحق الفيء ثلاثاً، والرافضة ليست منهم.
قوله: وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ [سورة الأنفال:75] أي: في حكم الله، وقال بعض أهل العلم: فِي كِتَابِ اللّهِ يعني القرآن، وقال بعضهم: فِي كِتَابِ اللّهِ يعني اللوح المحفوظ، وهذه المعاني لا منافاة بينها فإن قول الله: وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا [سورة الأحزاب:6] هو حكم لله ومثبت في كتاب الله وفي اللوح المحفوظ.
وليس المراد بقوله: وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ ما يطلقه علماء الفرائض من أن الأرحام هم القرابة الذين ليسوا من أصحاب الفروض ولا من العصبات.
(مسألة)
وكان المفسرون - رحمهم الله تعالى - في كلامهم على هذه الآية على قسمين، فمنهم من يجمل الكلام على الآية ولا يفصل، ومنهم من يفصل فتجده يتكلم عن قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ثم يتكلم بعد ذلك عن الذين في قلوبهم مرض، قال الكاتب وفقه الله: وسأذكر أولاً - إن شاء الله - خلاصة أقوال القسم الأول بالإضافة إلى بعض النقولات عنهم ثم أقوال القسم الثاني والنقولات على ذلك.
أولاً: من تكلم عن الآية إجمالاً ولم يفصل، ولهم في الآية أقوال:
الأول: أن المراد هم المشركون، قال ابن جرير: حدثني حجاج عن ابن جريج في قوله: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض فقلل الله المسلمين في أعين المشركين، فقال المشركون: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ، وقال السيوطي في الدر المنثور: وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ فأنزل الله: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ.
غير أن هذه الروايات لا تصح.
وهذا القول غير صحيح؛ لأنه لم يكن في مكة نفاق، بل كان فيها شدة وتعذيب وأذى للمسلمين، ولم يكن أحد بحاجة إلى النفاق
قال السيوطي في الدر المنثور: وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي في الآية قال: كان أناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا.
قال الثعالبي في تفسيره: قال المفسرون: إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق إنما هم عسكر الكفار، فمن كان الإسلام داخل قلوبهم خرجوا مع المشركين إلى بدر، منهم مكره وغير مكره، فلما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم ارتابوا وقالوا مشيرين إلى المسلمين: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ.
الرابع: أن المراد هم المنافقون بالمدينة، قال ابن جرير: حدثنا محمد بن الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الحسن في هذه الآية قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا منافقين.
وهذا غير صحيح؛ لأن الناس لم يطالبوا بالخروج في غزوة بدر؛ لأن النبي ﷺ خرج من أجل العير وبقي كثير من الصحابة في المدينة لم يخرجوا، فلا تُلحَق بأحد تهمة أو لوم أو معاتبة على التخلف.
قال أبو الليث السمرقندي في تفسيره - بحر العلوم - : قوله تعالى: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض. وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه.
الخامس: أن المراد هم ضعاف الإيمان من المؤمنين، قال ابن سعدي - رحمه الله - : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأنفال:49]، أي: شك وشُبه من ضعفاء الإيمان للمؤمنين حين أقدموا مع قلتهم على قتال المشركين مع كثرتهم.
*ثانياً: من تكلم عن الآية بالتفصيل، أقوالهم في المراد بالمنافقين:
الأول: أن المراد هم المنافقون في المدينة، قال ابن الجوزي في زاد المسير: وقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ قال ابن عباس - ا - : هم قوم من أهل المدينة من الأوس والخزرج.
قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: وظاهر العطف التغاير، فقيل: المنافقون هم من الأوس والخزرج، لما خرج الرسول ﷺ قال بعضهم: نخرج معه، وقال بعضهم: لا نخرج.
قال الزمخشري في الكشاف: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ بالمدينة.
قال الرازي في التفسير الكبير: هم قوم من الأوس والخزرج.
الثاني: أن المراد هم المنافقون الذين كانوا يومئذ في المسلمين، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ قال: وهم يومئذ في المسلمين، الدر المنثور.
قال أبو حيان الأندلسي: ولم يذكر أن منافقاً شهد بدراً مع المسلمين إلا معتِّب بن قشير فإنه ظهر منه يوم أحد قوله: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا [سورة آل عمران:154].
قال صاحب تفسير المنار: من المعلوم مما ورد في أهل بدر من آيات هذه السورة، ومن الأحاديث الصحيحة والحسنة: أنه لم يكن فيهم أحد من أولئك المنافقين ولا من الذين في قلوبهم مرض، فإن ضعفاءهم قد محصهم الله بما كانوا من جدالهم للنبي ﷺ ومصارحتهم له في كراهة القتال قبل وقوعه، وباقتناعهم بجوابه لهم، كما تقدم، ثم أتم تمحيصهم بخوضهم المعركة، فهم من الذين وصفهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض بأنهم غرهم دينهم، وهل يعقل أن يقول أحد منهم في المؤمنين "غرهم دينهم" وهم تبرءوا من عد أنفسهم من أهل هذا الدين؟، فإن صح ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - أنه قال: هم يومئذ في المسلمين، يكون أراد بهم أنهم كانوا معدودين في جملتهم، لا أنهم كانوا في الغزاة، وإلا كان خطأً مردوداً، وابن عباس - ا - لم يكن في سنه يوم بدر يميز هذه المسائل بنفسه، والرواية عنه فيها كما علمت آنفاً.
أقوالهم في المراد بالذين في قلوبهم مرض:-
الأول: قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام بمكة فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر كرهاً، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين ارتابوا ونافقوا وقالوا: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ قاله أبو صالح عن ابن عباس - ا - وإليه ذهب الشعبي في آخرين، وعدهم مقاتل فقال: كانوا سبعة: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعلي بن أمية بن خلق، والعاص بن منبه بن الحجاج، والوليد بن الوليد بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة.
قال أبو حيان الأندلسي: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ قوم أسلموا ومنعهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وقالوا: غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ فقتلوا جميعاً.
ذكر الألوسي في روح المعاني: قيل: فتية من قريش أسلموا بمكة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر، منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الفاكه، فالمرض على هذا: مجاز عن الشبهة.
قال الرازي في تفسيره: هم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا ثم إن قريشاً لما خرجوا لحرب الرسول ﷺ قال أولئك: نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا.
قال الشنقيطي في العذب النمير: وذهبت جماعة من العلماء إلى أن الذين في قلوبهم مرض في هذه الآية من سورة الأنفال خُص بهم أناس معروفون، هم الذين بسط الله قصتهم في سورة النساء، وهم قوم تكلموا بكلمة الإسلام فقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله في مكة، ثم إنهم أبوا أن يهاجروا، وفي قلوبهم إسلام وإيمان ضعيف في قلوبهم، على حرف هكذا وهكذا.
قيل: إنه وصف للمنافقين، ذكر الألوسي: قيل: المراد بهم المنافقون، ويكون من باب تعاطف الصفات، كقوله – تبارك وتعالى - : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4] فذلك لموصوف واحد، يعني العطف تارة يكون من باب عطف الصفات، والمقصود الموصوف واحد، وتارة يكون العطف يقتضي المغايرة بتعدد الذوات، وينزل تعدد الصفات منزلة تعدد الذوات بهذا الاعتبار فيصح التعاطف، وقد تتعاقب مع حذف حرف العطف.
والقول بأن المنافقين كانوا في صف المسلمين في يوم بدر قول باطل، فهذه الآية إما أن تكون تحدثت عن القضية فيما بعد، بعدما ظهر النفاق، فبعد غزوة بدر وجد النفاق، ويمكن أن تكون هذه الآية تتحدث عن الذين خرجوا بمكة، قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:97].
وقيل: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون المدينة وما حولها، وأنهم هم المنافقون من أهل المدينة، قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد، وضعف من العُدد، وذكر ابن عطية عن القاضي أبو محمد قال: إن النفاق أخص من مرض القلب؛ لأن مرض القلب مطلق على الكافر وعلى من اعترضه شبهة وعلى من بينهما.
وفرق الطاهر بن عاشور بين المنافقين وبين الآخرين فقال: فنظم الكلام هكذا: وزين الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يقبحون أعمال المسلمين ويصفونهم بالغرور وقلة التدبير من اعتقادهم في دينهم الذي أوقعهم في هذا الغرور، ويجول في نفوس الذين في قلوبهم مرض مثل هذا، والقول هنا مستعمل في حقيقته ومجازه الشامل لحديث النفس؛ لأن المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم، وأما الذين في قلوبهم مرض وهم طائفة غير المنافقين، بل هم ممن لم يتمكن الإيمان من قلوبهم فيقولونه في أنفسهم لما لهم من شك في صدقه.
وهذا غير صحيح؛ لأن القول كالكلام يطلق على مجموع اللفظ والمعنى، ولا يكون في حديث النفس إطلاقاً، ولا يقال: قول، ويراد به حديث النفس إلا بقيد، قال في نفسه، زورت في نفسي مقالة، أما أن يكون هكذا يطلق القول ويراد به حديث النفس، فهذا لا يعرف لا في اللغة ولا في القرآن وإنما هذا يتأتى على عقيدة الأشاعرة، والمؤلف - رحمه الله - كان على عقيدة المتكلمين.
- رواه البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله (5 / 2283)، برقم (5816)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4 / 2034)، برقم (2640).
- رواه الطبراني في المعجم الأوسط (6 / 293)، برقم (6450).
- رواه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث (3 / 73)، برقم (2872)، وابن ماجه (2 / 905)، برقم (2713)، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، وصححه الألباني في إرواء الغليل (6 / 88).