السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
كِرَامٍۭ بَرَرَةٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عبس:13-14] أي: هذه السورة أو العظة، وكلاهما متلازم، بل جميع القرآن فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: معظمة، موقرة."

هذه التذكرة في صحف مكرمة؛ ولهذا قال: هذه السورة، أو العظة، وهما متلازمان، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: معظمة، والكريم هو الشريف من جنسه، يقال له كريم، تقول: هذا نبات كريم، وهذا كلام وقول كريم، وهذا جوهر كريم، وهذا رجل كريم، وهذا شهر كريم.

فهذه الصحف معظمة، مرفوعة، عالية القدر، الرفع هنا يشمل الأمرين يعني قال: عالية القدر، والذكر مَّرْفُوعَةٍ [عبس: 14]، لا تصل إليها الشياطين، ولا تتنزل بها.

فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ابن جرير يقول: اللوح المحفوظ، وبعضهم يقول: الصحف التي في أيدي الملائكة؛ لأنه قال: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [عبس : 13 - 15]، والسفرة: هم الرسل السفراء بين الله وخلقه، حملة الرسالات، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحـج: 75]، فالملائكة فيهم رسل، ولهم مهام متنوعة، من هؤلاء الملائكة من يكونون سفراء، قال ﷺ: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة[1] ، فلما كان مشتغلاً بالوحي ماهراً به صار مع هؤلاء مرافقاً، وصارت مرتبته عالية، وهو أعظم، وأرفع من ذاك الذي يتتعتع فيه فله أجران، لكن المزية لا تقتضي الأفضلية، ذاك مرتبته أعلى، وأعظم.

ابن جرير يقول: اللوح المحفوظ، والله أخبر عن القرآن بأنه في لوح محفوظ، لا شك أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن القرآن أيضاً له تنزلات أخرى، نزل في اللوح المحفوظ، ونزل في بيت العزة من سماء الدنيا، وهو صحف بأيدي الملائكة، كأن الآية هنا تشير إلى ذلك، مع أنه يحتمل أن يكون اللوح المحفوظ، لكن لما قال الله : بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 15-16] دل على أن المقصود الصحف التي بأيدي الرسل الذين ينزلون بالوحي، ويبلغون رسالات الله إلى من شاء من البشر، جبريل ﷺ.

فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ [عبس: 13] ليس المقصود به أنه هذا المصحف الذي بأيدينا، وكذلك في قوله: فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ۝ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 78-79]، هناك الكتاب المكنون المقصود به اللوح المحفوظ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] يعني: الملائكة، لكن يؤخذ من هذا الموضع، يؤخذ من هذه الآية أنه إذا كان في صحف مكرمة، فينبغي أن يكرم هذا القرآن الذي بين أيدينا، فلا يوضع في مقام، أو في مكان يمتهن فيه، ولا يكون التعامل معه بحيث يصير إلى حال من الامتهان، فبعض الناس يجعل المصحف مثلاً صندوقاً، أو بوقاً، بوقاً كأنْ يثنيه إذا كان جزءاً، يجعله كالبوق، أو يجعله صندوقاً يضع فيه أشياء، أوراقاً، يضع فيه ملفاًّ، يضع فيه أشياء، هذا خطأ، أو يضع المصحف حيث يمتهن، وللأسف هذا كثير اليوم، انظر عندما تذهب لتصلي في الحرم مثلاً، تجد بعض الناس أحياناً يضع نعليه فوق بعض ويضع المصحف فوقها، أو يضع المصحف على الأرض، وهو يعلم أن المارة كثير، هذا يضربه برجله، وهذا يطؤه دون أن يشعر، وهذا يقفز فوقه، ويعلم أن الذين يمرون كثير، وأنه سيكون عرضة لكل ذلك، بل رأيت بعض من يدخل مستعجلاً في بعض المساجد حتى يدرك الدرس، ويضع كتبه بما فيها التفسير في دروج الأحذية، هكذا يتعامل مع العلم، وكتب العلم، عند الأقدام، هذا ما يليق، فإذا كان هذا القرآن الله سماه كريماً، وعزيزاً، وصفه بالعزيز، والكريم، فينبغي أن يكون التعامل معه بإكرام.

وإذا كان الذي في السماء لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79]، فينبغي أن يكون هذا الذي بين أيدينا لا يمسه أيضا إلا المطهرون، وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذكره ابن القيم، وسيأتي - إن شاء الله - في تطبيقات التدبر، في قسم منه اسمه التفسير الإشاري، في الأنواع الصحيحة من التفسير الإشاري وهي قليلة جداً، هذا منها، ما ذكره العلماء هنا لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الذين فسروا الكتاب المكنون باللوح المحفوظ قالوا: ويؤخذ منه إذا كان الذي في السماء، إذا كان اللوح المحفوظ، إذا كان لا يسمه إلا المطهرون فينبغي أن يكون هذا أيضاً كذلك، هذا اسمه التفسير الإشاري، يعني: من باب أن الشيء بالشيء يذكر، أو من باب الاعتبار، أو أشبه ما يكون بالقياس، أو نحو ذلك، يعني لا يخضع لقاعدة من قواعد الاستنباط المعروفة بطرق الاستدلال.

وإذا كان القرآن فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس : 13-16]، فينبغي لحملة القرآن أن يكونوا كراماً بررة، هذا وصف الذين في السماء، فينبغي أن يكون حملة القرآن، وأن يكون المشتغلون بالقرآن، وأن يكون الحفاظ، والقراء، والمعلمون كذلك، أن يتخلقوا بهذه الأخلاق، والآجري - رحمه الله - تكلم بكلام شديد على الذين يكونون من حملة القرآن، ولكنهم لهم ممارسات، وسلوكيات لا تتفق مع ما يحملون، فذكر الإقبال على إقراء الأغنياء، والكبراء، والإعراض عن الفقراء، وكيف إذا جاءه ضعيف، فقير، زجره، ونهره، وإذا جاء غني أكرمه، وذكر التكسب بالدنيا، وطلب الدنيا بالقرآن، وما أشبه ذلك، هذه الأشياء يعني ينبغي أن تكون حاضرة، حامل القرآن من أعز الناس نفساً، لا يمد يده.

رأيت مرة رجلاً يحمل مؤهلاً من أعلى المؤهلات، ويقول: أنا متفرغ لتعليم القرآن في بلدي، فقلت له: وأين تعمل؟ قال: ما أعمل، ويحمل دكتوراه، يقول: أنا فقط متفرغ لتدريس القرآن، قلت: ومن أين تكتسب؟ قال: الطلاب بعدما يخرجون من الحلقة يذهبون في الطرقات، ويسألون الناس، ثم يعطونني، قلت: يعني أنت تأخذ أوساخ الأوساخ، كيف تأخذ هذا الذي يسألونه، ويعطونك إياه؟! قال: نعم، من أين نأكل؟ قلت: تعمل بيدك، وتشتغل، قال: هكذا أدركنا الناس منذ قرون في بلدنا، قلت: بئس ما أدركتموهم عليه، تربون هؤلاء حملة القرآن على الشحاذة، والسؤال، ثم يعطونك هذا؟ فهذا لا يورث إلا المهانة، والذل؛ ولذلك المفترض أن حامل القرآن يكون من أعز الناس، وله هيبة، وتجد الوجه المشرق، وتجد أنوار القرآن عليه، لكن لماذا هذه المهانة أحياناً تحصل لدى بعض الناس ممن يحمل القرآن، مع أنه كتاب عزيز؟، السبب هو هذه الممارسات، ومن قديم كان في بعض البلدان قراء كبار أحياناً تجدهم يذهبون للمآتم، وغيرها يقرءون من أجل أن يأخذوا الأموال، ويحضرون في حفلات، وفي مجالس كبراء وكذا، يقرءون ويأخذون الأموال، ورأيتهم في المسجد الحرام قبل حوالي ثلاثين سنة، يصفّون صفوفاً، عُميان ويقرءون قراءة من أجمل ما يكون، يقرءون قراءة مع بعض، كل واحد يقرأ لوحده، جالسون وكل واحد مادٌّ يده عند مداخل الصحن، هكذا يكون القرآن! والموضة الجديدة الآن لدى بعض القراء يسميها استضافات، يذهب دول غنية، عند هؤلاء خمسة أيام، وعند هؤلاء ثلاثة أيام، وعند هؤلاء أسبوع، وهذا يعطيه كذا، وهؤلاء يعطونه كذا، وهؤلاء يعطونه كذا، وهو مشغول طول الشهر، والآن أيضاً أثناء السنة، أربعاء، وخميس، وجمعة، أنا أرى أن لا يُصلى خلف هؤلاء، أنا لا أصلي خلفهم؛ لأن هذا متكسب بالقرآن، يتكلف، ويتصنع من أجل الدنيا، وطلب المال، سواء حدّد أو لم يحدد، هو ما جاء إلا من أجل هذا، نسأل الله العافية، والهداية للجميع.

"مَرْفُوعَةٍ أي: عالية القدر، مُطَهَّرَةٍ أي: من الدنس، والزيادة والنقص، وقوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: هي الملائكة."

السفرة جمع سافر؛ لأنهم يُسفِرون، ويَسفرون بالوحي، هكذا يقول أهل اللغة، وذكر هذا ابن جرير - رحمه الله -، وبعضهم قال كمجاهد: هم الملائكة الكاتبون لأعمال العباد، لكن هذا يتعلق بالوحي فهذا فيه بُعد، وقال البخاري: سفرة: الملائكة، يقال: سفرتْ يعني: أصلحتْ بينهم، جُعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تعالى، وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم، والسفراء هم الواسطة بين هؤلاء وهؤلاء، الذي يصلح بين الناس، ونحو ذلك يقال له سفير، فهؤلاء سفرة يسفرون بالوحي، الملائكة - عليهم الصلاة والسلام -.

"وقال البخاري: سَفَرةٌ: الملائكة، سَفرتْ: أصلحتْ بينهم، وجُعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله - تعالى -، وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم.

وقوله تعالى: كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 16] أي: خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة، ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد، والرشاد.

روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: قال رسول الله ﷺ: الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه، وهو عليه شاق له أجران[2]. أخرجه الجماعة. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا} [النبأ: 18]: زمرا (6/166)، رقم (4937)، ومسلم،  كتاب صلاة المسافرين وقصرها،  باب فضل الماهر في القرآن، والذي يتتعتع فيه (1/549)، رقم (798).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا} [النبأ: 18]: زمرا (6/166)، رقم: (4937)، ومسلم،  كتاب صلاة المسافرين وقصرها،  باب فضل الماهر في القرآن، والذي يتتعتع فيه (1/549)، رقم (798).