الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ولهذا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أي: يراهم، ويفر منهم، ويبتعد عنهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل.

وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: أنه إذا طلب إلى كلٍّ من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي نفسي، لا أسأله اليومَ إلا نفسي حتى إن عيسى ابن مريم يقول: لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني[1]؛ ولهذا قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.

قال قتادة: الأحب فالأحب، والأقرب فالأقرب، من هول ذلك اليوم."

قوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ليس هذا هو جواب فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، من جهة الإعراب يحتمل أن يكون بدلاً منه، فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، أو أنه منصوب بمقدر فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ أعني: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، فيكون تفسيراً للصاخة، أو بدلاً منها، لكن يكون الجواب مقدراً - والله أعلم -.

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، يفر من أخيه، وأمه، وأبيه لماذا؟ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:37]، فبعض السلف - واختاره ابن جرير - يقول: يفر منهم؛ لئلا يطالبوه بالحقوق والمظالم، يعني يكون قصّر في حقوقهم، قصر في واجبه نحوهم، فيطالبونه به، فيفر منهم إذا رآهم، وهذا يدل على أنه يفر من غيرهم من باب أولى، فهذا قال به طائفة من السلف، وهو اختيار ابن جرير، ويحتمل غير ذلك، بعضهم يقول: يفر من أخيه وأمه... كراهية أن يروا ما به من الشدة - نسأل الله العافية -؛ لئلا يروه في حال يكرهونها، أو يكره أن يراه الناس عليها، أو لعلمه أنهم لا ينفعونه، ويمكن أن يقال - والله أعلم -: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ ​​​​​​​ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ؛ لأنه مشغول بنفسه، ليس لديه أي اقتدار على سماع ما بالآخرين، أو الشكوى، أو المطالبة بحق، أو المطالبة بحسنة، فهو حينما يراهم يفر منهم؛ لأنه مشغول بنفسه ليس عنده قدرة على نفعهم بشيء، لا يستطيع أن يقدم لهم نافعة، فإذا رآهم فر منهم؛ لئلا يطالبوه بحسنات، أو لئلا يطالبوه بحقوق، كل ذلك وارد، فهو مشغول بنفسه عنهم، فإذا ذكر هؤلاء الذين يسمون الدائرة الأولى في القرابات، القرابة دوائر، فهذه الدائرة رقم واحد، الأصول، والفروع، يعني الإخوة والأخوات، الأب والأم، الزوجة والأولاد، الدائرة الأولى، الذين هم أقرب الناس إليه، ومع ذلك يفر منهم، يعني الأخ هو العاضد، يعني الناصر، والأب محل تعظيم وتقدير، والأبناء القلوب بهم أعلق؛ لأنهم بضعة منه، فالقلب يتفرق بين هؤلاء عادة، الإخوة ينتظر منهم العون والنصر، يتقوى بهم، والأب، والأم لا يرد لهم طلباً، والأولاد يموت دونهم، ويود لو أنهم لم يطئوا على الأرض؛ لئلا يلحقهم بذلك مشقة، ويوم القيامة: نفسي نفسي، لن يجد أحداً يقف معه، لن يجد معيناً، ولا مؤازراً، أقرب الناس إليه، فكيف بالأصدقاء الأصحاب؟! أما الأشرار فكما قال الله: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [سورة الزخرف:67]، فلن يجد من زملاء، ومعارف، وجيران، وقرابات، لن يجد من أحد رفداً، ولا عوناً إطلاقاً، وإنما يعتقه، أو يوبقه عمله، فاللائق بالإنسان إذا كان الأمر بهذه المثابة أن يبحث عما يحصل به الخلاص في ذلك اليوم، وعما يؤنسه وهو العمل الصالح، والإيمان بالله - تبارك وتعالى -، فإذا كان حظه من ذلك وافراً كانت حاله آنذاك أفضل، وأكمل، وأطيب، وإذا كان الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يأتيهم الناس، وكل واحد منهم يقول: نفسي نفسي، فكيف بما دون الرسل - عليهم الصلاة والسلام -؟ في الدنيا الناس يتعاونون، ويتوانسون، ويتسلى بعضهم بما يقع لبعض من الآلام، والعلل، والمصائب، وهناك كل أحد يجد أن مصيبته قد انفرد بها، واختص بها، لا يشاركه في ذلك أحد، والمقصود أن مثل هذه تدفع الإنسان إلى مراجعة النفس، والتوبة إلى الله ، والجد والاجتهاد، والعمل الصالح، فذلك اليومُ الحق، وما عداه هذه الدنيا بما فيها، كل ما يجري فيها من اللذات والأتعاب إنما هي أحلام نائم سرعان ما تنقشع، وتبقى في النهاية ذكريات، لا يدوم شيء منها على حال، لا أوقات العافية، ولا أوقات المرض والشدة، كل ذلك يزول، ولكن الحياة التي لا تزول هي تلك الحياة التي علة العليل فيها لا تبرأ، ولا يمكن الإمهال، أو الرجوع إلى الدنيا، أو إعطاء فرص جديدة، يبقى الإنسان أسيراً من عمله، والأمر قريب جداً، يمكن أن يموت الإنسان الآن وهو في مكانه، ثم يعاين الحقائق، ويكون أسيراً لعمله، لا يستطيع أن يتزود، ولا ينفعه ندم، ولا تُرجي توبة - والله المستعان -. 

  1. هو في الصحيحين لكن ليس بهذا اللفظ، وإنما يقول عيسى حين يطلب منه الشفاعة: ((إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد))، رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، برقم (4712)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194).