الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۝ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ۝ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ۝ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ ۝ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ۝ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ۝ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ۝ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 15- 29].

روى مسلم في صحيحه، والنسائي في تفسيره عند هذه الآية عن عمرو بن حُرَيث قال: صليت خلف النبي ﷺالصبح، فسمعته يقرأ: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۝ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ.

وروى ابن جرير عن خالد بن عرعرة سمعت عليًّا وسئل عن: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۝ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ فقال: هي النجوم تخنِس بالنهار، وتكنِس بالليل."

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ جاء الربط بالفاء بين هذين المقطعين، كأنه - والله أعلم - يقول: لو أنهم آمنوا بالقرآن الذي جاء القسم عليه لصدَّقوا بما هو من أعظم أخباره، وهو البعث، فهذه السورة تتحدث عن البعث، والنشور، واليوم الآخر، وأن ما ذكر في آخرها مما يتصل بالقرآن، والقسم بأنه حق من عند الله ووحي، أن ذلك يمكن أن يرجع إلى ما سبق، باعتبار أن هذا القرآن مخبر عن قضية البعث، والنشور.

عن علي في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ أي: النجوم تخنِس بالنهار، وتكنِس بالليل، وهذا القول مروي عن كثير من السلف، كالحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، فيكون القسم بالخنس.

سميت بالخنس من خَنس إذا تأخر؛ لأنها تخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى، وبعضهم يحددها بخمسة، وهي زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، وبعضهم يقول: كل الكواكب؛ لأن هذه صفتها، تخنس في النهار إذا غابت، تخنس في مغيبها، والفراء يقول: هي الخمسة؛ لأنها تخنس في مجراها، وتكنس يعني: تستتر، كما تكنس الظباء في المغار، والأماكن التي تأوي إليها.

الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 16] لأنها تجري مع الشمس، والقمر في الفلك، وبعضهم يقول: اختفاؤها تحت ضوئها، وبعضهم يقول: الخنوس: خفاؤها بالنهار، والكنوس هو غروبها، وجاء عن ابن مسعود، ومجاهد، والنخعي: أن المراد بها بقر الوحش، قالوا: لأنها تتصف بالخنس، وبالجوار، وبالكنس، فإذا رأت الإنسان انقبضت واختفت، فتدخل في كِناسها، الأماكن التي تأوي، وتختفي فيها، فالكنس يقولون: مأخوذ من الكِناس الذي يختفي فيه الوحش، وبعضهم يقول: الظباء، كما جاء عن سعيد بن جبير، ومجاهد والضحاك، وهذا يشبه الذي قبله، لا ينافيه.

والراجح: أنها الكواكب، فهذا أليق بالسياق، فقد جاء في الآيات أشياء تناسب هذا، قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير: 17-18] فأقسم بهذه الكواكب التي تجري في الفلك، وتغيب، وتختفي، كما أقسم بالليل إذا أقبل، أو إذا أدبر كما سيأتي، وبالصبح في حال إقباله.

ويمكن أن يقال: إن الله - تبارك وتعالى - أقسم بالخنس، وهذا يصدق على كل ما يقال فيه ذلك، فيدخل فيه الكواكب، ويدخل فيه بقر الوحش، فيكون اللفظ حُمل على أعم معانيه، ولم يخص به معنىً دون معنى، هذه الطريقة هي التي يمشي عليها ابن جرير غالباً؛ ولهذا يقول: وأرجح الأقوال عنده أن يقال: إن الله أقسم بأشياء تخنس أحيانا - أي تغيب - وتجري أحياناً، وتكنس أخرى، وكنوسها أن تأوي في مكانسها، والمكانس عند العرب هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش، والظباء، يقول: وغير منكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، يعني عبر كما يعبر عن الأماكن التي تأوي إليها بقر الوحش، والظباء.

يقول: فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء فالصواب أن يُعم بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحياناً، والجري أخرى، والكنوس بآنات – يعني أوقات – على ما وصف - جل ثناؤه - من صفتها.

وابن جرير - رحمه الله - عبارته واضحة، فيرى حمل ذلك على هذه المعاني جميعاً، وأحياناً ابن جرير يذكر المعنى في البداية، فعادة إذا ذكر آية يذكر بعدها سطراً، أو سطرين أو ثلاثة، يسمى المعنى الإجمالي المعنى العام، وهذا الذي جمعه بشار عواد في المختصر لابن جرير، فجمع عبارات ابن جرير، وهذا يصلح أن يقرأ في المساجد، ويقرأ للعامة، وهذه طريقة مهمة، بحيث لا يضيع المعنى المقصود، ويتفرق بالكلام على الجزئيات والتفصيلات، ولهذا الشاطبي - رحمه الله - وبعض العلماء ينكر الاشتغال باللطائف، والدقائق، يقول: هذا يفوت المعنى الذي نزلت من أجله الآية.

والأولى التوسط في هذا الباب، فيذكر المعنى العام كما يفعل ابن جرير، ثم بعد ذلك تذكر المعاني، والتفاصيل والدقائق، واللطائف بما لا يفضي إلى القول على الله بلا علم، من التكلفات والمحامل البعيدة - والله أعلم -.