الأحد 25 / ذو الحجة / 1446 - 22 / يونيو 2025
وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24] أي وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين أي بمتهم، ومنهم من قرأ ذلك بالضاد أي: ببخيل بل يبذله لكل أحد، قال سفيان بن عيينة: ظنين وضنين سواء، أي: ما هو بكاذب، وما هو بفاجر، والظنين المتهم، والضنين البخيل، وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله الله على محمد فما ضنّ به على الناس، بل نشره، وبلغه، وبذله لكل من أراده، وكذا قال عكرمة، وابن زيد، وغير واحد، واختار ابن جرير قراءة الضاد، قلت: وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح كما تقدم."

قوله: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد هذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى بالظاء - أخت الطاء - فهذه قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ومعنى "بضنين": ببخيل، ضن بماله، ضن بما في يده، ضن بعلمه، يعني بخل، وظنين من الظن يعني أنه متهم، ليس على علم، وبينة، ويقين من أمره، فالسلف فسروا هذا، وهذا كله حق، والقاعدة أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فهذه دلت على معنى، وهذه دلت على معنى، وهذا من إعجاز القرآن حيث يصرّفه الله بهذه الألفاظ التي يركب الناس كلامهم من حروفها، ومع ذلك يتحداهم أن يأتوا بمثله على أي وجه كان، وكذلك أيضاً تكثُر المعاني وتتوارد، ويكون ذلك زيادة في الأحكام بتنوع هذه القراءات.

وهنا في قول قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله الله على محمد ﷺ فما ضن به على الناس، بمعنى أن الإنسان إذا كان عنده شيء نادر، أو شيء لا وجود له عند الآخرين أنه يمسكه، يكون عزيزاً على نفسه، لا يبذله للناس، لا يسهل ذلك على نفسه، والنبي ﷺ الله أنزل عليه هذا الوحي الذي فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ومع ذلك كان في غاية البذل والجود، فبلغ البلاغ المبين - عليه الصلاة والسلام -.

"والحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول: "ثم نزه رسوليه كليهما -أحدهما: بطريق النطق، والثاني: بطريق اللزوم - عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة، والبخل، والتبديل، والتغيير الذي يوجب التهمة، فقال: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: أداؤها من غير كتمان، وأداؤها على وجهها من غير زيادة، ولا نقصان، والقراءتان كالآيتين، فتضمنت إحداهما - وهي قراءة الضاد - تنزيهه عن البخل، فإن الضنين هو البخيل، يقال: ضنِنتُ به أضنّ بوزن بخِلتُ به أبخل"[1]." 

من باب ضنِنتُ فهو أضَنّ الوصف بالضاد - أخت الصاد -، يقال: فلان أضن، وهو ضنين، يعني بخيل، أما بالظاء - أخت الطاء - فتقول: ظنَنُت كذا أظُنه، الذي هو الشك، أو الريبة، أو عدم التيقن من الشيء، ظننت أظن فهو ظان يظن.

"وقال - رحمه الله -: "يقال ضنِنت به أضن بوزن بخلت به أبخل ومعناه، ومنه قول جميل بن معمر: 

أجودُ بمضمونِ التِّلادِ وإنني بسرِّكِ عمن سألني لضنينُ

قال ابن عباس - ا -: ليس بخيلاً بما أنزل الله، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم، وأجمع المفسرون على أن الغيب هاهنا القرآن والوحي، وقال الفراء: يقول تعالى يأتيه غيب السماء وهو منفوس فيه، فلا يضن به عليكم"[2]."

لاحظ وهو منفوس فيه، وهو على الغيب يعني على الوحى، يعني هذا الشيء خُص به، نفيس جداً، غاية النفاسة، مع ذلك ينقله ويجود به.

"وقال أيضاً - رحمه الله -: "وهذا معنى حسن جداً فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس، ولاسيما عمن لا يعرف قدره، ويذمه، ويذم من هو عنده، ومع هذا فهذا الرسول لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفس شيء، وأجله.

وقال أبو علي الفارسي: المعنى يأتيه الغيب فيبينه، ويخبر به ويظهره، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده، ويخفيه حتى يأخذ عليه حُلواناً.

وفي معنى آخر وهو أنه على ثقة من الغيب الذي يخبر به فلا يخاف أن يَنتقض، ويظهر الأمر بخلاف ما أخبر به كما يقع للكهان، وغيرهم ممن يخبر بالغيب، فإن كذبهم أضعاف صدقهم، وإذا أخبر أحدهم بخبر لم يكن على ثقة منه بل هو خائف من ظهور كذبه، فإقدام هذا الرسول على الإخبار بهذا الغيب العظيم الذي هو أعظم الغيب، واثقاً به، مقيماً عليه، مبدياً له في كل مجمع، ومعيداً منادياً به على صدقه، مُجلباً به على أعدائه من أعظم الأدلة على صدقه.

وأما قراءة من قرأ بظنين بالظاء فمعناه المتهم، يقال: ظننتُ زيداً بمعنى اتهمته، وليس من الظن الذي هو الشعور، والإدراك فإن ذاك يتعدى إلى مفعولين، ومنه ما أنشده أبو عبيدة:

أمَا وكتابُ اللهِ لا عن شناءةٍ هجرتُ ولكنّ المحبَّ ظنينُ

المعنى وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين لا يزيد فيه ولا ينقص، وهذا يدل على أن الضمير يرجع إلى محمد ﷺ؛ لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي بالأمانة، ثم قال: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ، ثم قال: وَمَا هُوَ أي: وما صاحبكم بمتهم، ولا بخيل، واختار أبو عبيدة قراءة الظاء لمعنيين.

أحدهما: أن الكفار لم يُبخِّلوه، وإنما اتهموه"[3]."

ضن يضن: يبخل، لكن العبارة التي نقلها هنا ابن القيم - رحمه الله - باعتبار أن الظنين ليس من الظن الذي هو دون اليقين، وإنما هو للتهمة، يعني معنى آخر فظنه: اتهمه، الظنين: المتهم، يعني غير الظن الذي خلاف اليقين. 

  1. المصدر السابق (ص: 124).
  2. المصدر السابق (ص: 124-125).
  3. المصدر السابق (ص: 125-126).