"قال الله تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا، إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله على رسوله ﷺ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب، والخطايا؛ ولهذا قال تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ والرين يعتري قلوبَ الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقربين.
وقد روى ابن جرير، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من طرق، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: إن العبد إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[1]، وقال الترمذي: حسن صحيح."
إذًا هذا تفسير نبوي للران فلا يعدل عنه إلى غيره، فهنا هؤلاء الذين كذبوا وقالوا في القرآن ما قالوا رد الله عليهم قال: كَلا يعني ليس الأمر كما يقولون في القرآن بَلْ رَانَ على قلوبهم فالذي حجب قلوبهم عن الإيمان هو هذا الران حيث لم يؤمنوا به مع ظهور صدقه، وهذا الران يقول: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يعني كثرة الذنوب، والخطايا، غلب على قلوبهم غمرها، وأحاط بها، هذه الذنوب، فغطتها، فالذنب كما جاء في الحديث نكتة سوداء، فيتكاثر ذلك على القلب حتى يسود، ومجاهد - رحمه الله - بسط كفه قال: إذا أذنب ذنبًا انقبض القلب فقبض الخنصر، وإذا أذنب آخر انقبض، وإذا أذنب ذنبًا آخر انقبض، ثم بعد ذلك يختم عليه، فمجاهد هكذا يفسر الران أن القلب بسبب هذه الذنوب يحصل له هذا ينقبض فلا يصل إليه شيء لا يدخل إلى هذا القلب شيء يختم على قلبه كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
لاحظ حجاب كثيف حيث لا يصل إليها شيء، ولاحظ كلام ابن كثير يقول: والرين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقربين، فجعل ذلك على ثلاث مراتب، هذا قاله بعضهم، وهكذا فُسر به ما جاء في الحديث: إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله ليغان على قلبي يعني مع كثرة الاستغفار، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة، فيجد هذا الأثر من الغين ليغان على قلبي يجد أثرًا مع كثرة الاستغفار، مع أن النبي ﷺ هو أكمل الناس حالاً، ومع ذلك يجد هذا الأثر مع كثرة الاستغفار، فكيف بمن عطل الذكر، والاستغفار لا يكاد يذكر الله فكيف يكون حاله؟
فهذه أحوال تعرض للقلب فيجد الإنسان أحيانًا شيئًا من الضيق، أو التغير أو نحو ذلك، والعلماء - رحمهم الله - يقولون: بأن النبي ﷺ كان يشتغل بطاعات، وأعمال في أمور الجهاد، وأمور مصالح الأمة، وما إلى ذلك فكيف بمن يشتغل بأمور من الغفلة؟ كيف بمن يشتغل بأمور من المعاصي؟ ابن القيم لا يفسر ذلك بمثل ما ذكره ابن كثير، وغالب من يذكر هذا هم من المتأخرين من المتأثرين بالتصوف من شراح الحديث، أو الذين يتكلمون في السلوك، وكأنهم إنما يدندنون حول هذا المعنى عند الكلام على الحديث، وما يعرض للقلوب وإنه ليغان على قلبي فكيف يقال النبي ﷺ يعرض له شيء من التغير، أو الضيق، أو نحو ذلك وهو أكمل الناس معرفة بربه - تبارك وتعالى -، فمن هنا قالوا: الغين وإلى آخره فسروه بتفسيرات أخرى قالوا: هذا يحصل للأبرار، وهذا يحصل للمقربين على خلاف ظاهر الحديث، لكنه ليس الران قطعًا.
ابن القيم ذكر كل الأشياء التي تحصل للقلب في بعض كتبه، وما يعرض للقلب، وموانع التدبر حينما يكون الإنسان قد ختم على قلبه فالطبع، والختم، والران، والأغلفة التي تكون على القلوب، كل هذه نحو عشرة ذكرها ابن القيم، وبين معانيها.
"وقال - رحمه الله -: "وقال الفراء كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها وقال أبو إسحاق: ران غطى يقال: ران على قلبه الذنب رينًا أي: غشيه، قال: والرين كالغشاء يغشى القلب، ومثله الغين.
قلت: أخطأ أبو إسحاق فالغين ألطف شيء وأرقه قال رسول الله ﷺ: وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة[4]، وأما الرين، والران فهو من أغلظ الحجب على القلب، وأكثفها.
وقال مجاهد: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب.
وقال مقاتل: غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة
وفي سنن النسائي، والترمذي من حديث أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء...[5]إلخ.
وقال عبد الله بن مسعود: كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله، فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينًا على قلوبهم، فكان سبب الران منهم، وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب، ومسببه، لكن السبب اختيار العبد، والمسبب خارج عن قدرته، واختياره"[6]. وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقَلْبَ يَصْدَأُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا زَادَتْ غَلَبَ الصَّدَأُ حَتَّى يَصِيرَ رَانًا، ثُمَّ يَغْلِبُ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا، وَقُفْلًا، وَخَتْمًا، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي غِشَاوَةٍ، وَغِلَافٍ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدَى، وَالْبَصِيرَةِ انْعَكَسَ، فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ، وَيَسُوقُهُ حَيْثُ أَرَادَ"[7]فَمَنَعَتْهُمُ الذُّنُوبُ أَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ قُلُوبِهِمْ، فَيَصِلُوا إِلَيْهَا فَيَرَوْا مَا يُصْلِحُهَا وَيُزَكِّيهَا، وَمَا يُفْسِدُهَا، وَيُشْقِيهَا، وَأَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَتَصِلَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَتَفُوزَ بِقُرْبِهِ، وَكَرَامَتِهِ، وَتَقَرَّ بِهِ عَيْنًا، وَتَطِيبَ بِهِ نَفْسًا، بَلْ كَانَتِ الذُّنُوبُ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ"[8].
- رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، برقم (4244)، وأحمد في المسند، برقم (7952)، وقال محققوه: "إسناده قوي، محمد بن عجلان صدوق قوي الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (3908)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه".
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/150).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:94).
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم(2702).
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ويل للمطففين، برقم (3334)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (10251)، وابن حبان في صحيحه، برقم (2787)، وقال محققه الأرناؤوط: "إسناده قوي".
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:94).
- الجواب الكافي (ص:60).
- الجواب الكافي (ص:119).