الجمعة 28 / جمادى الآخرة / 1447 - 19 / ديسمبر 2025
كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۝ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ۝ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۝ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ۝ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۝ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ۝ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [سورة المطففين:7-17].

يقول تعالى حقًا: إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أي: إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين، فعِّيل من السجن، وهو الضيق."

السِجن هو الموضع المكان الذي يُسجن فيه، والسَجن هو المصدر فكتابهما في سجين، هنا قال: فعيل من السجن وهو الضيق، فهل السجن هو الضيق؟ أصل هذه المادة يرجع إلى الضيق، فالسجن هو الموضع، والسجن هو المصدر يعني الذي هو الفعل نفسه من السجن، فهل هنا قال: من السِجن، أو من السَجن؟ مأواهم لفي سجين فعيل من السجن، وهو الضيق، أو السِجن.

الأصل في رد الكلمات إلى أصولها أن يرجع إلى المصادر، وبعضهم يرجعها إلى أصل الفعل ثلاثيًا، أو رباعيًا، أو غير ذلك، فهنا إذا أردنا أن نرجعها إلى الأصل، وهو المصدر نقول: سجين من السَجن، فعيل صيغة مبالغة من السجن، لكن هل السجن هو الضيق؟ السَجن هو المصدر يراد به الفعل فعل السجن، لكن أصل مادة السجن ترجع إلى الضيق - والله أعلم -.

"كما يقال: فسّيق، وشرّيب، وخمّير، وسكّير، ونحو ذلك.

وبنحو هذا يقول ابن جرير - رحمه الله -.

 ولهذا عظم أمره فقال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ؟ أي: هو أمر عظيم، وسجن مقيم وعذاب أليم.

ثم قد قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب، في حديثه الطويل: يقول الله في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجين[1]

وسجين: هي تحت الأرض السابعة، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۝ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة التين:5-6]، وقال ها هنا: كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [سورة الفرقان:13]."

هنا قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وسيأتي أيضًا في كتاب الأبرار لفي عليين فهنا قابل بين الكتابين كتاب الأبرار وكتاب الفجار، فهل المراد بسجين موضع مكان، أو المراد أن هذا اسم للكتاب، أو للديوان كما يقال أيضًا في عليين يرد هذا السؤال هل عليون موضع أو أنه ديوان مسمى بهذا الاسم، فإذا تأملت عبارات المفسرين تجد هنا يقول ابن كثير: أي: أن مصيرهم، ومأواهم لفي سجين، ثم ذكر قول من قال: تحت الأرض السابعة إلى آخره، وهذا الذي اختاره ابن جرير، ويستدل لهذا بحديث البراء: اكتبوا كتابه في سجين وهو تحت الأرض السابعة، يعني أن سجين تحت الأرض السابعة، يعني موضع يقال له: سجين على هذا القول، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك لكن الآن هذا هو الاحتمال والقول الأول، لكن هذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يقولون: هذا اسم للكتاب الذي يدون فيه هؤلاء الفجار، وأهل النار اسمه سجين، كما أن الكتاب الآخر الذي دون فيه الأبرار يسمى بعليين، يعني أن عليين علم على ذلك الكتاب اسم علم، يقال له: عليون، وهذا يقال له: سجين اسم للكتاب، فالله قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۝ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ فالذين فهموا من قوله: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ أن هذا تفسير لسجين أنه كتاب، وهناك في عليين أيضًا كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ومرقوم يعني مسطور مكتوب من الرقم الكتابة، فبعضهم يقول: هذا كتاب جامع لأعمال أهل الشر والصادرة عنهم إلى آخره، هؤلاء الكفرة، والشياطين فهذا علم لهذا الكتاب، لكن كثيرًا من السلف فمن بعدهم يقولون: هذا موضع، ويفسرونه بنحو ما قال ابن كثير - رحمه الله - ضيق، حبس، شدة مكان ضيق لفي سجين، وهذا الذي مشى عليه كثير من أصحاب المعاني كالأخفش، والمبرد، والزجاج، وأيضًا قال به أبو عبيدة معمر بن المثنى، والآية تحتمل هذا وهذا، تحتمل المعنيين، وهذه الاحتمالات ستأتي في عليين، فقوله هنا: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يعني مكتوب، كما يقول قتادة: رقم لهم بشر، يعني كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر، وحتى أصل هذه المادة اختلفوا فيها في سجين هل هي هكذا سجين في أصلها، أو أن النون هذه أصلية فيكون مشتقًا من السَجن، أو أن السجن هو الحبس، ويكون ذلك على سبيل المبالغة مثل ما ذكر هنا خمير، وسكير ونحو ذلك، أو أنها بدل من اللام سجيل مشتق من السجل يعني الكتاب الذي يدون ويكتب به، هكذا بعضهم يقول، وهو خلاف الأصل، يعني كأن هؤلاء الذين يقولون: إن النون مبدلة من اللام، يقولون: أصل مادة سجين كتاب اسم سجين هكذا كأنهم يقولون: بأنها غير معهودة، والواقع أنها إذا كانت من السجن صيغة مبالغة سِجين، ولا إشكال في هذا، وتأملوا العبارات التي نقلها ابن كثير أو بعض ما أورد كل ذلك يرجع إلى أن هذا اسم للكتاب فسره بقوله: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ هذا الكتاب اسمه سجين دونت أسماء هؤلاء وأعمالهم في كتاب أهل الشقاء، المسمى سجين، أو أن المقصود أن هؤلاء في موضع يقال له: سجين، يعني كتبوا في سجين هذا معنى كتاب الفجار، ليس هو اسم الكتاب أنهم كتبوا في سجين، وين تقع سجين هذه؟ أكثر السلف يقولون: الأرض السابعة على اختلاف في العبارات، بعضهم يقول: تحت خد إبليس، وبعضهم يقول: تحت صخرة، لكن هؤلاء القائلين يختلفون أيضًا منهم من يقول: هذا الكتاب موضعه هناك، وبعضهم يقول: لا، أرواحهم؛ لأن العلماء من السلف فمن بعدهم اختلفوا في أرواح الكفار أين تكون إذا ماتوا؟ يعني قبل دخول الجنة والنار، أهل الجنة، والنار لأهلها أين تكون أرواح الكفار؟ أقوال كثيرة معروفة، ومن أكثر من تكلم بهذا، وأوسع من تكلم فيه ابن القيم - رحمه الله -، فمما ذكره السلف في ذلك أن أرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة، وعليه هنا حينما قال الله : إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ يحتمل أن يكون في سجين اسم لهذا الكتاب اسمه سجين هذا القول الأول، القول الثاني إن كتاب بمعنى أن هؤلاء كتبوا في أهل الشقاء أين أهل الشقاء؟ في سجين، يعني أن مصيرهم سجين هذا سجن مكان ضيق إلى آخره تكون فيه أرواح الكفار، أو أن الكتاب هذا في سجين موضعه في سجين كما أن كتاب الأبرار موضعه في عليين، اتضحت الآن المناح الثلاثة، وذلك يرجع إلى الأصل إلى قولين في الأصل هل المراد اسم للكتاب، أو أن سجين موضع الذين قالوا موضع على منحيين طائفة يقولون: كتاب يعني كتبوا سيؤولون هناك مآلهم، مصيرهم، وبعضهم يقول: إن هذا الكتاب الذي كتبت فيه أعمال أهل الشقاء، وأسماء أهل الشقاء موضعه في مكان يقال له: سجين تحت الأرض السابعة.

"في الأصل يقول: والصحيح أن سجينًا مأخوذ من السجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، ثم ذكر كلاماً ثم قال أيضًا: وقوله تعالى: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس تفسيرًا لقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد، ولا ينقص منه ولا ينقص منه أحد؛ قاله محمد بن كعب القرظي."

هذا الكلام يرجع للمعنى الذي ذكرته آنفًا أن قوله: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس تفسيراً لسجين.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ شيء هائل عظيم، ثم قال: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس بتفسير له: يعني أن هذا كتب، وفرغ منه هذا الموضوع انتهى يعني أن هذا المصير محتوم فـكِتَابٌ مَّرْقُومٌ أي: قضية فرغ منها كتبت، لا تبدل، لا تغير، حكم نافذ كتاب يمضي على هؤلاء ولا بدّ، هذا يسير معنا والذين قالوا: اسم الكتاب قالوا ما بعده يكون تفسير له كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، ابن كثير يقول: ليس تفسيرًا لقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه إلى آخر الكلام الذي نقل عن محمد بن كعب.

ابن جرير يقول: كِتَابٌ مَّرْقُومٌ أي: مكتوب. 

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: " إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (107)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).