الجمعة 28 / جمادى الآخرة / 1447 - 19 / ديسمبر 2025
فَلَآ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ  ۝ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ۝  وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ۝  لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ۝  فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۝  وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ۝  بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ۝  وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ۝  فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [سورة الانشقاق:16-25]."

قبل هذا "إذا" في قوله: إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ أين جوابها؟ الآن بدأ بقسم جديد فأين الجواب؟ بعضهم كالفراء يقول: إن الجواب وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ هذا الجواب أذنت وألقت، طيب والواو؟ يعني الجواب لا تكون الواو داخلة عليه، يعني يكون هكذا إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ۝ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يعني إذا السماء انشقت أذنت لربها، وحقت، يقول: الواو زائدة، وذكرنا أن هذا التعبير لا يحسن، لكن هم يقصدون زائدة إعرابًا، وعليه فلا تكون عاطفة إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ أذنت لربها وحقت وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ألقت ما فيها، يكون "ألقت" جوابًا لما قبله وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [سورة الإنشقاق:3]، وهذا ليس بظاهر - والله أعلم -، فقد رده عليه بعض أهل العلم كابن الأنباري قال: غلط، وعللوا ذلك بتعليلات لا حاجة للتوسع في مثل هذا في هذا المقام، وبعضهم يقول: الجواب هو قوله: فَمُلَاقِيهِ يعني فأنت ملاقيه، هذا قول الأخفش، وبعضهم يقول: في الكلام تقديم، وتأخير، وهذا خلاف الأصل أيضًا؛ لأنه مهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح من الترتيب الذي ذكره الله تعالى فهو مقدم على دعوى التقديم، والتأخير؛ لأن الأصل أن الكلام على النسق المذكور في الآيات، فالمبرد يذكر هذا يقول: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ، متى تلاقيه؟ إذا السماء انشقت، وهذا بعيد، والله - تبارك وتعالى - لا يخاطب الناس بخطابات تكون محاملها على معانٍ لا تخطر في بال السامع فضلاً عن أن تكون هي المتبادرة، أو غير المتبادرة - والله تعالى أعلم -، وبعضهم يقول: إن الجواب فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ يعني إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ۝ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ۝ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ۝ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ فيحصل انقسام الناس، تفاوت الناس، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وهذا قول الكسائي، وهذا من حيث النظر - والله أعلم - لا يكون ذلك بعيدًا متكلفًا فهو محتمل، إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، وبعضهم يقول: إن الجواب هو "يا أيها الإنسان"، "إذا السماء انشقت يا أيها الإنسان" قالوا: مع إضمار الفاء أي فيا أيها الإنسان، وكأن قول الكسائي أقرب للسياق - والله أعلم -.

"رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَعُبَادَة بْن الصَّامِت وَأَبِي هُرَيْرَة وَشَدَّاد بْن أَوْس وَابْن عُمَر وَمُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَمَكْحُول وَبَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيّ وَبُكَيْر بْن الْأَشَجّ وَمَالِك وَابْن أَبِي ذِئْب وَعَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة الْمَاجِشُون أَنَّهُمْ قَالُوا: الشَّفَق الْحُمْرَة، وَروى عَبْد الرَّزَّاق عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: الشَّفَق الْبَيَاض، فَالشَّفَق هُوَ حُمْرَة الْأُفُق، إِمّا قَبْل طُلُوع الشَّمْس كَمَا قَالَهُ مُجَاهِد، وَإِمّا بَعْد غُرُوبهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أَهْل اللُّغَة، قَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: الشَّفَق الْحُمْرَة مِنْ غُرُوب الشَّمْس إِلَى وَقْت الْعِشَاء الْآخِرَة فَإِذَا ذَهَبَ قِيلَ: غَابَ الشَّفَق، وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: الشَّفَق بَقِيَّة ضَوْء الشَّمْس وَحُمْرَتهَا فِي أَوَّل اللَّيْل إِلَى قَرِيب مِنْ الْعَتَمَة، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَة: الشَّفَق الَّذِي يَكُون بَيْن الْمَغْرِب وَالْعِشَاء، وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو - ا - عَنْ رَسُول اللَّه ﷺ أَنَّهُ قَالَ: وَقْت الْمَغْرِب مَا لَمْ يَغِب الشَّفَق[1]

فَفِي هَذَا كُلّه دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّفَق هُوَ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ وَالْخَلِيل."

وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، والحديث يدل على هذا، وإليه يتوجه الذهن عند الإطلاق، إذا قيل: الشفق فالمقصود به الحمرة، والمقصود به أيضًا الشفق الذي يكون مع مغيب الشمس، بعد غياب الشمس إلى دخول وقت العشاء، فهذا كله وقت الشفق، فهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم من أهل اللغة، ومن المفسرين، ومن الفقهاء، وهو الذي أضافه الواحدي إلى المفسرين قال: هذا قول المفسرين: الشفق الذي يكون بعد غياب الشمس، بل الواحدي يقول: وهذا قول أهل اللغة جميعًا، مع أنك لو تتبعت كلام أهل اللغة تجد من يذكر أشياء لكن يمكن أن تُوجَّه، لكن هذا الذي يكاد يطبق عليه أهل العلم، وعامة أهل العلم، ولذلك حكاه القرطبي - رحمه الله - عن أكثر الصحابة، والتابعين، والفقهاء، فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فأقسمَ بالشفق، ثم أقسمَ بالليل، فالشفق يكون مقدمة لليل، والذين عبروا عن ذلك بالنهار كأنهم قابلوا ذلك بالليل، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ  ولكن هذا بعيد، وهكذا من عبر عنه بالبياض كأنه نظر إلى هذا إلى ذكر الليل، ولكن الشفق هو مقدمة الليل، والله أقسم بالليل في حال إقباله كما سبق، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:2]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [سورة الليل:1] يعني أقبل، وكذلك في قوله: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ يحتمل هذا وهذا؛ لأنه من الأضداد أقبل، وأدبر، فهذه كلها مظاهر تدل على عظمة الله ، وقدرته الباهرة، فأقسم بالشفق وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ۝ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فهذه كلها تكون في الليل، فالشفق مقدمته، والقمر آيته فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:12]، يعني الشمس، وفي قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ۝ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ۝ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:1-3] فالغاسق فسر بالقمر في أحد المعاني المشهورة في تفسيره، وأشهر الأقوال في قوله: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ أشهر الأقوال - على تعددها -: أنه الليل، أو القمر، وبين القولين ملازمة باعتبار أن القمر هو آية الليل، فهنا ذكر هذا جميعًا ذكر الليل، وذكر القمر، وذكر الشفق، وعرفنا أن "لا" هذه لتأكيد القسم، وبعضهم يقول: نافية لأمر مقدر سابقًا أي لا لما تقولون مثلاً أقسم بالشفق، أو أنها نافية يراد بها نفي القسم، أي أن هذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم.

والأقرب أنها لتوكيد القسم.

 

"قَالَ اِبْن عَبّاس، وَمُجَاهِد، وَالْحَسَن وَقَتَادَة: وَمَا وَسَقَ وَمَا جَمَعَ، قَالَ قَتَادَة: وَمَا جَمَعَ مِنْ نَجْم وَدَابّة، وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَة: وَاللَّيْل وَمَا وَسَقَ يَقُول: مَا سَاقَ مِنْ ظُلْمَة، إِذَا كَانَ اللَّيْل ذَهَبَ كُلّ شَيْء إِلَى مَأْوَاهُ."

هذا مفيد، يراجع الأصل

قوله - تبارك وتعالى - : وَاللَّيْل وَمَا وَسَقَ أقسم بالليل، وما وسق، وسق أصله ضم الشيء بعضه إلى بعض، يعني وَاللَّيْل وَمَا وَسَقَ أي: حوى، وجمع، ولف كما يعبر المفسرون، وهي عبارات متقاربة، اللهم إلا ما جاء عن عكرمة أنه فسر، وسق قال: وما ساق، فسره بالسوق، ساق، يعني جعله من السوق لا من الجمع، ما ساق من ماذا؟ ما ساق من ظلمة، ما ساق من الذوات، والمخلوقات التي تأوي إلى أماكنها، ومحالها، وبيوتها، أو ما ساق من شرور شياطين، وما إلى ذلك، فإن الليل يكون مظنة لانتشار الشياطين، شياطين الإنس، والجن، ولهذا النبي ﷺ أمر بكف الصبيان عند إقبال الليل حتى تذهب فحمة العشاء؛ لأنهم ينتشرون - وقت الانتشار الآن - وتنتشر الهوام، والسباع في الليل، ولهذا جاء في الاستعاذة في سورة الفلق، قال: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ قلنا: الليل، أو قلنا: القمر وهما متلازمان، لماذا الاستعاذة؟ لأنه في الليل تنتشر هذه الشرور في الظلام أكثر من النهار، عكرمة فسره بالسوق، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا، وخلفًا أنه بمعنى الضم، والجمع، واللف، جمع ولف، وضم كل ما جنه وستره، "وما وسق"، انظر إلى قول الشاعر البائس المسكين الذي يبحث عن أدنى سبب يربطه بمحبوبته، فلم يجد شيئًا من قرابة ولا صلة، ولا نسب فقال:

أليس الليلُ يجمع أمَّ عمرٍو وإيّانا فذاك بنا تدانِي

هذا قرْب، يعني هناك عامل مشترك شيء يجمع بيني، وبينها، ما هذا الذي يجمع بينك وبينها؟ قال: الليل يجمع بيننا، هي عندها ليل وأنا عندي ليل

وتَرى الهلالَ كما أراه ويعلوها النهارُ كما علانِي

هو يبحث عن أي شيء، أي وجه من الاشتراك، والجمع بينه، وبين محبوبته، فما وجد إلا الليل، وأنها ترى الهلال، وأن النهار يعلوهما معًا فهذا نوع اشتراك، وارتباط مع أن الليل - الظلام - يجمع الشياطين ويجمع الأشرار، ويعلو الجميع.

فهنا وما وسق فُسر بما جنّ، وستر، أو ما حمل، كل هذه معانٍ متقاربة، كل شيء حملتَه فقد وسقتَه، فهذا الليل ينتشر بظلامه، فيغطي ناحية المعمورة، في الوقت نفسه الذي يحمل فيه الظلمة، أو يحمل ما يحمل من كواكب تخرج في الليل، وما إلى ذلك، كما يقول طائفة من السلف كقتادة، والضحاك، ومقاتل: تسكن فيه الأرواح، ويرجع الناس إلى بيوتهم، والطير، وما إلى ذلك، الكل يأوي إلى ناحيته، نحن قد لا نشاهد الآن الحياة على طبيعتها التي فطرها الله عليها؛ لأن الناس تحول ليلهم إلى نهار، لكن إلى عهد قريب، إلى وقت قريب كان الناس يشاهدون ذلك، فإذا جاء الغروب بدأ كل شيء يرجع، رجع أهل الزراعة، والفلاحة، والصناعة، وأقفرت المتاجر، والأسواق حتى الدواب، والبهائم ترجع من نفسها، يعني لا تحتاج إلى سائق، إذا جاء وقت الغروب رجعت هذه الدواب مستقبلة دور أهلها كل واحدة تعرف، حتى إنه إلى عهد قريب في القر،ى والنواحي، والأرياف، ونحو هذا تجد القرية لها راعٍ واحد، فهؤلاء عندهم شاة، وهؤلاء عندهم ثلاث، وهؤلاء عندهم خمس، فإذا جاء وقت ما بعد الفجر سرّحوها، فتذهب ترتع مسرعة تستقبل تلك الناحية التي تنطلق منها مع الراعي، ثم تذهب سائر اليوم، فإذا جاء وقت الغروب أقبلت، وقد امتدت خواصرها، وامتلأت ضروعها مسرعة لا تلوي على شيء، كل واحدة من هذه البهائم تستقبل دار أهلها فتلج، هذا شيء مشاهد، ومعروف يعرفه الناس، ولهذا يقول ابن جرير: "والليل وما وسق" وما جمع مما سكن فيه من ذي روح، الناس يرجعون إلى بيوتهم، الطيور ترجع، البهائم ترجع، فتهدأ، هذا الذي يطير يذهب إلى وكره، وما يدب يرجع إلى موضعه، فهذا معنى وسق - والله تعالى أعلم - ، فيحمل على هذه المعاني كلها، وما وسق: ما حمل من ظلمة، وما جمع.

"وقوله تعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قَالَ اِبْن عَبّاس: إِذَا اِجْتَمَعَ وَاسْتَوَى، وَقَالَ الْحَسَن: إِذَا اِجْتَمَعَ، إِذَا اِمْتَلَأَ، وَقَالَ قَتَادَة: إِذَا اِسْتَدَارَ، وَمَعْنَى كَلَامهمْ أَنَّهُ إِذَا تَكَامَلَ نُوره وَأَبْدَرَ، جَعَلَهُ مُقَابِلًا لِلَّيْلِ وَمَا وَسَقَ."

يعني هنا الليل وما حوى بظلمته وما حمل فيها، وكذلك أقسم بالقمر في أكمل حالاته، وذلك إذا استدار معناه إذا استتم، المعنى واحد لكن هذا عبر باستدار، وهذا قال: استتم.

فإنه لا يكون مستديرًا، ولا تتم استدارته إلا إذا كان بحال الاكتمال؛ ولهذا يعبرون يقولون: امتلأ، اجتمع، لا يمتلئ، ويجتمع إلا في حال الاكتمال، وذلك في ليلة الرابع عشر، وليلة الخامس عشر، هذه الليالي تجد بعض أهل العلم يقول: ليلة الثالث عشر، وليلة الرابع عشر، وليلة الخامس عشر يكون القمر في أكمل حالاته إلى السادس عشر، الليلة السادسة عشرة يكون القمر مكتملاً، فيكون ذلك معنى الوسق الذي هو الاكتمال، أو الجمع، واتسق له هذا الأمر يعني اكتمل، أمر فلان متسق أي منتظم مكتمل مستقيم، اتسقت له الأمور يعني استتمت، فالقمر إذا اتسق معنى ذلك أنه اكتمل، فأقسم به في هذه الحال؛ لأن ذلك أحسن أحوال القمر، وأكمل أحوال القمر، وأجمل ما يكون عليه القمر، ولهذا يشبَّه به في الجمال، وجهه كالقمر في الحسن.

  1. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612).