الجمعة 28 / جمادى الآخرة / 1447 - 19 / ديسمبر 2025
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ روى الْبُخَارِيّ عَنْ مُجَاهِد قَالَ: قَالَ اِبْن عَبَّاس: "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق حَالًا بَعْد حَال، قَالَ هَذَا نَبِيّكُمْ ﷺ"[1] وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ.

وَقَالَ عِكْرِمَة: طَبَقًا عَنْ طَبَق حَالًا بَعْد حَال، فَطِيمًا بَعْدَمَا كَانَ رَضِيعًا، وَشَيْخًا بَعْدَمَا كَانَ شَابًّا، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: طَبَقًا عَنْ طَبَق يَقُول: حَالًا بَعْد حَال، رَخَاء بَعْد شِدَّة، وَشِدَّة بَعْد رَخَاء، وَغِنًى بَعْد فَقْر، وَفَقْرًا بَعْد غِنًى، وَصِحَّة بَعْد سَقَم، وَسَقَمًا بَعْد صِحَّة."

قوله - تبارك وتعالى -: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ هذا جواب القسم، الآن فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ قلنا: هذا قسم، يعني أقسم بالشفق، وبالليل وما وسق، وبالقمر إذا اتسق، ثلاثة أقسام، أو أكثر؛ لأن القسم هنا بالشفق، وبالليل وبما وسق - يعني جمع - وبالقمر صارت أربعة، هذه الأقسام الأربعة على ماذا؟ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ هذا جواب القسم، ما معنى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ؟ الآن عندنا القراءة بالفتح "لتركبَنَّ" وهي قراءة متواترة لحمزة، والكسائي، وابن كثير وأبي عمرو، هذا الآن "لتركبَنَّ" خطاب للواحد في ظاهره، وهو يحتمل أن يكون المراد به واحدًا وهو النبي ﷺ، يعني حالاً بعد حال من الشدة، والرخاء، والضعف، والقوة حتى التمكين، ومضى قول ابن عباس - ا -، لكن ابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على شدائد القيامة، يعني هنا ابن عباس - ا - ما قيده، ماذا قال؟ قال: حالاً بعد حال، ابن جرير يقول: حالاً بعد حال من شدائد القيامة، والآية أطلق الله فيها ذلك فلم يقيده بالقيامة، والأصل بقاء ما أطلقه الله على إطلاقه، كما يبقى العام على عمومه حتى يرد المخصِّص، أو المقيِّد، ولا يوجد عندنا ما يقيد ذلك، فهنا على هذه القراءة المتواترة "لتركبَنَّ" بعضهم قال: أي: النبي ﷺ، حالاً بعد حال، هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ مقتضى الإطلاق أن يبقى عامًّا، وبعضهم يقول: إن ذلك يرجع إلى السماء، يعني السماء ستمر بأطوار، وأحوال من الانفطار، والانشقاق حتى تصير وردة كالدهان، ولكن هذا بعيد - والله أعلم -.

وبعض أهل العلم يقول: إن هذه القراءة "لتركبَنَّ طبقًا عن طبق" خوطب بها واحد غير معين، فتكون بمعنى العموم، يصلح الخطاب لكل مخاطب، يعني يا أيها الإنسان، أو أن الله أقسم بهذه الأمور - أربعة أقسام - على هذه القضية "لتركبَنَّ طبقًا عن طبق" حالاً بعد حال، القراءة الثانية لَتَرْكَبُنَّ هذه واضح أنها للجمع وهو الناس، والذين حملوا ذلك على النبي ﷺ بعضهم خصه بأمر حصل له في الدنيا، وذلك ليلة المعراج، طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ يعني في عروجه في السماوات ﷺ كما جاء عن الشعبي ومجاهد، لتركبَنَّ يا محمد طبقًا عن طبق، يعني يعرج الله به فيصعد من سماء إلى سماء، وبعضهم يقول: درجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة من رتب العبودية، والقرب من الله - تبارك وتعالى -، ورفعة المنزلة، وبعضهم يقول: هذا في الشدائد، وابن جرير يحمله على الشدائد كما سبق لكنه حمله على شدائد الآخرة، وبعضهم أطلق الشدائد باعتبار أن مثل هذا التعبير عادة يقال في الشدائد، يقولون: أصابته بنات طبق، وقع في بنات طبق، يعني في مصائب، في شدائد، فمن هنا حمله ابن جرير - رحمه الله - على الشدائد، ولكنْ كثير من أهل العلم حملوه على ما هو أعم من هذا طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ قالوا: حالاً بعد حال، يبدأ نطفة، ثم علقة، ثم يتخلق، ثم تنفخ فيه الروح، ثم يخرج طفلاً، ثم يكون يافعًا يشب، ثم بعد ذلك يصير كهلاً، ثم يصير شيخًا، ثم يموت، ويصير إلى البرزخ، ثم يصير إلى القيامة، أو إلى الحشر، ثم بعد ذلك يصير إلى الجنة، طبعًا مع ما يجري في القيامة من حساب، ووزن الأعمال، ونصب الموازين للناس، ثم الاجتياز على الصراط، والجنة، أو النار.

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حالاً بعد حال فهذا يكون الخطاب للإنسان يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ كما أشرت في أول السورة، فيكون هذا بيانًا لحال هذا الإنسان، وما يصير إليه، ولابدّ من أنه سينتقل من حال إلى حال، وأنه سيلقى من الشدة، والأحوال، والأطوار، والرخاء أحوالاً متنوعة، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فهذه حقيقة أقسم الله عليها أربعة أقسام، وبناء على هذا المعنى يكون الإنسان قد وطن نفسه لتحمل الشدائد والصبر عليها؛ لأن هذا أمر لا مفر منه، والله  يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فمن ظن أن الدنيا هي محل الراحة فهو مخطئ، وإنما الراحة حينما يضع أول قدم له في الجنة، فتجد الإنسان اليوم مرتاحًا، وغدًا مشوش الذهن، يصبح الإنسان في حال من الانشراح، والسرور، والنشاط، نفسه متألقة، وفي يوم آخر يصبح في حال من الضيق، والفتور، تمر به اليوم أمور تنشط قلبه، وتقويه، ويفرح، ويسر، ثم بعد ذلك تمر به أحوال يضيق بها الصدر، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فهذه طبيعة الحياة، مثل هذه الأجواء التي نراها: اليوم هواء، غدًا غبار، بعد غد رطوبة، بعد ذلك يأتي شتاء، بعده يأتي ربيع، صيف، خريف، كما تتقلب هذه الأجواء التي نشاهدها كذلك الحياة، هكذا طبيعتها لا تصفو لأحد، لا كبير، ولا صغير، ولا قوي، ولا ضعيف، ولا غني، ولكن الإنسان في حال الابتلاء في حال الشدة في حال ما يكدر عليه صفو العيش يظن أنه هو الوحيد بمصيبته، فتضيق به الدنيا؛ ولذلك يتعزى في الدنيا بما يجري للآخرين، فإذا قيل له: فلان حصل له كذا، فلان حصل له مثلك، فلان حصل له كذا يتسلى، لذلك الخنساء تقول:

ولولا كثرةُ الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي

فإذا كثر المصاب وعم خف أثره على الناس، لكن حينما ينفرد الإنسان ببلية في مصيبة يظن أنه الوحيد، فيتعاظم ذلك في نفسه، فيغلب عليه الغم، والحزن والهم، ولكن من عرف أن هذه هي طبيعة الحياة، وأن الله أقسم على هذا، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ حالاً بعد حال فإنه لا يعجب، والحياة لا تدوم على حال واحدة ، وإنما تتغير، وتتقلب بأهلها، وتجد هذا الإنسان الذي في غاية العافية صار مريضًا، وتجد هذا الإنسان الذي كان في نضارة الشباب بعد مدة تراه قد أصابه الشَّمَط، وشاخ، وذبل، وضعف، ومثل هذا تجد هذا الغني صار فقيرًا، وبعدما كان هؤلاء بحال اجتماعهم، واكتمال أمرهم، وأحوالهم تفرقوا - والله المستعان -، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ.

نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يلطف بهم، وأن يجعل العاقبة لهم، وأن ينصرهم على عدوه، وعدوهم، وأن يحقن دماءهم، ويحفظ أعراضهم - والله المستعان -.

  1. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ، برقم (4940).