هنا البشارة استعملت فيما يسوء، والمشهور في الاستعمال والغالب أنها تقال فيما يسر، وأن ذلك لظهور أثر البشارة على الأبشار على البشرة بحيث يظهر أثر ذلك من السرور مثلاً، ونحو ذلك، فقيل لها: بشارة، فالمشهور أن البشارة هي الإخبار بما يسر خاصة، وهذا ليس محل اتفاق، لكن هذا الذي عليه الأكثر من أهل العلم، وبعضهم يقول: تستعمل في هذا، وهذا، وبعضهم يقول: تستعمل فيما يسوء مجازًا، وبعضهم يقول: هذا على سبيل التهكم، يعني حينما يعبر بالبشارة عن الأمر الذي لا يسر، وجاء هذا في كلام العرب، وهو معروف استعمال البشارة فيما يسوء، كما قال الشاعر:
| يُبشرني الغرابُ ببيْنِ أهلي | فقلتُ له ثكلتُك مِن بشيرِ |
ببين أهلي يعني بفراقهم، فهذا استعمله فيما يسوء، فيما يكره.
| أبشرتَني يا عمرو أنّ أحبتي | جفوْني وقالوا الودُّ موعدُه القبرُ |
بشره بأمر يسوءه فهذا معروف، لكن الغالب أنها تستعمل فيما يسر، وفي القرآن جاء استعمالها فيما يسوء، والبشارة فيما يسر وبما يسوء كل ذلك يظهر أثره على بشرة الإنسان.
"وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة الإنشقاق:25] هذا استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا أي: بقلوبهم، وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي: بجوارحهم، لَهُمْ أَجْرٌ أي: في الدار الآخرة، غَيْرُ مَمْنُونٍ، قال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد، والضحاك: غير محسوب، وحاصل قولهما أنه غير مقطوع، كما قال تعالى: عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108] وقال السدي: قال بعضهم: غير ممنون غير منقوص.
آخر تفسير سورة الانشقاق، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة."
قوله - تبارك وتعالى -: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قال: استثناء منقطع، باعتبار أن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات غير داخلين فيما وصف به هؤلاء الكفار الذين يكذبون، وأمر بتبشيرهم بالعذاب الأليم، فيكون إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بمعنى لكن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون، يعني غير منقوص أو مقطوع، كما قال الله : عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وبعضهم فسره بالمحسوب، والمحسوب مظنة للانقطاع، ولهذا ابن جرير - رحمه الله - جمع بين المعنيين غَيْرُ مَمْنُونٍ فسره غير محسوب، ولا منقوص، وبعضهم يفسر ذلك بالمنة يعني لا يحصل به منة عليهم يتأذون بها، فالعطاء إذا كان فيه نقص وهكذا الذي يحسب فإن الذي يحسب إنما يكون قليلاً، ولهذا أخبر الله عن جزاء أهل الإيمان أنه بغير حساب، يعني حثوًا بلا كي،ل ولا ميزان، وإنما يعد، ويحصى، ويحسب الشيء القليل، والذي يحصل به منة يحصل به تأذٍّ، ولهذا قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264] فهذه العطية إذا حصل معها منة فإن ذلك يؤذي، لكن الله - تبارك وتعالى - يمتن على عباده بما أعطاهم، وأنعم عليهم، ومنته ليست من ذلك في شيء، يعني ليس ذلك مما يحصل به التأذي، لكن المقصود أنه عطاء لا تنغيص فيه، ولا كدر معه، فهو كثير لا ينقطع، ولا يحصل معه تأذٍّ بحال من الأحوال.
القول الآخر يقصد به المنة، فالمنة يحصل بها التأذي، لكن يرِد على هذا أن الله يمتن على عباده بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [سورة الحجرات:17] فهذه لا يحصل بها التأذي، فمن فسره بالمنة في العطاء، أو نحو ذلك هو لا يقصد بذلك أنه يخلو من منة الله على عباده، هذا لا ينفك العبد منه، وإنما المقصود بذلك - والله أعلم - أنه لا يحصل به المنة التي يحصل بها التأذي كما في الدنيا - عطية الناس -، وإلا فالله يمن على عباده فيما حباهم وأعطاهم أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، فالفضل له وحده - -، والحافظ ابن القيم له تعليقات على بعض المواضع في هذه السورة في قوله مثلاً: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ.
الآن يقول: إن الشفق هو الذي يكون في إقبال الليل بعد غروب الشمس، يعني ليس الحمرة التي تكون عند طلوع الشمس.
هنا يرجع إلى غير مذكور لَتَرْكَبَنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ السماء ليس لها ذكر فكيف يرجع إليها؟ قال: دل عليها الشفق وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ؛ لأن ذلك يكون من السماء.
وقال - رحمه الله -: "وعلى هذا فيكون قسماً على المعاد، وتغيير العالم.
ومن قال الخطاب للنبي فله ثلاث معانٍ: لتركبَن سماء بعد سماء حتى تنتهي إلى حيث يُصعدك الله"[4]."
هذا في المعراج.
وقال - رحمه الله -: "هذا قول ابن عباس في رواية مجاهد، وقول مسروق، والشعبي، قالوا: والسماء طبق، ولهذا يقال للسموات السبع: الطباق.
والمعنى الثاني: لتصعدن درجة بعد درجة، ومنزلة بعد منزلة، ورتبة بعد رتبة حتى تنتهي إلى محل القرب، والزلفى من الله.
والمعنى الثالث: لتركبَن حالاً بعد حال من الأحوال المختلفة التي نقل الله فيها رسوله من الهجرة، والجهاد، ونصره على عدوه، وإدالة العدو عليه تارة، وغناه، وفقره، وغير ذلك من حالاته التي تنقل فيها إلى أن بلغ ما بلغه إياه.
ومن قال: الخطاب للإنسان، أو لجملة الناس فالمعنى واحد، وهو تنقل الإنسان حالا بعد حال من حين كونه نطفة إلى مستقره من الجنة، أو النار، فكم بين هذين من الأطباق، والأحوال للإنسان.
وأقوال المفسرين كلها تدور على هذا، قال ابن عباس - ا -: لتصيرن الأمور حالاً بعد حال، وقيل: لتركبن أيها الإنسان حالاً بعد حال من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى كونه حيًّا، إلى خروجه إلى هذه الدار، ثم ركوبه طبق التمييز بين ما ينفعه ويضره، ثم ركوبه بعد ذلك طبقاً آخر، وهو طبق البلوغ، ثم ركوبه طبق الأشُد، ثم طبق الشيخوخة، ثم طبق الهرم، ثم ركوبه طبق ما بعد الموت في البرزخ، وركوبه في أثناء هذه الأحوال أطباقاً عديدة، لا يزال ينتقل فيها حالاً بعد حال إلى دار القرار، فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد، ثم يفعل الله سبحانه بعد ذلك ما يشاء.
واختار أبو عبيدة قراءة الضم، وقال: المعنى بالناس أشبه منه بالنبي ﷺ؛ فإنه ذكر قبل الآية من يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه بشماله"[5].
أيضًا في قوله: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ .
الآن يربط بين هذه الأشياء المقسم بها إلى أن قال: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
وقال - رحمه الله -: وتغيير الله سبحانه للعالم، وتصريفه له كيف أراد، ونقله إياه من حال إلى حال، وهذا محال أن يكون بنفسه من غير فاعل مدبر له، ومحال أن يكون فاعله غير قادر ولا حي ولا مريد، ولا حكيم، ولا عليم، وكلاهما في الامتناع سواء، فالمقسم به وعليه من أعظم الأدلة على ربوبيته، وتوحيده وصفات كماله وصدقه، وصدق رسله، وعلى المعاد؛ ولهذا عقب ذلك بقوله: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إنكاراً على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزمة لمدلولها أتم استلزام، وأنكر عليهم عدم خصوعهم، وسجودهم للقرآن المشتمل على ذلك بأفصح عبارة وأبينها، وأجزلها، وأوجزها، فالمعنى أشرف معنى، والعبارة أشرف عبارة، غاية الحق بغاية البيان، والفصاحة"[7].
هذا آخر ما في هذه السورة.
- التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص:110).
- المصدر السابق (ص:110-111).
- المصدر السابق (ص:111-112).
- المصدر السابق (ص:112).
- المصدر السابق (ص:112-113).
- المصدر السابق (ص:113).
- المصدر السابق (ص:113-114).