الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا أَيْ: إِنَّك سَاعٍ إِلَى رَبّك سَعْيًا، وَعَامِل عَمَلًا، فَمُلَاقِيه ثُمَّ إِنَّك سَتَلْقَى مَا عَمِلْت مِنْ خَيْر، أَوْ شَرّ، وَيَشْهَد لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ جَابِر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: قَالَ جِبْرِيل: يَا مُحَمَّد عِشْ مَا شِئْت فَإِنَّك مَيِّت، وَأَحْبِبْ مِنْ شِئْت فَإِنَّك مُفَارِقه، وَاعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّك مُلَاقِيه[1]، وَمِن النَّاس مَنْ يُعِيد الضَّمِير عَلَى قَوْله: رَبّك أَيْ: فَمُلَاقٍ رَبّك، وَمَعْنَاهُ فَيُجَازِيك بِعَمَلِك، وَيُكَافِئك عَلَى سَعْيك، وَعَلَى هَذَا فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَلَازِم، قَالَ الْعَوْفِيّ عَن اِبْن عَبَّاس: يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا" يَقُول: تَعْمَل عَمَلًا تَلْقَى اللَّه بِهِ خَيْرًا كَانَ، أَوْ شَرًّا."

قوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ما المقصود بالإنسان هنا؟ لاحظ السورة مكية، بعضهم يقول: جنس الإنسان، وما مضى من أن الغالب في السورة المكية أنه يراد بالإنسان الكافر هذا قبل أن يحكم به ينبغي النظر إلى السياق، فهنا السياق عام في جنس الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، ثم ينقسم الناس بعد ذلك إلى آخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، فلا يمكن هنا أن يقال: الإنسان الكافر يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا الكدح في اللغة: هو السعي في الشيء بجهد، بصرف النظر هل هذا الجهد في خير، أو شر، أو مستوي الطرفين يعني لا خير، ولا شر، هذا الكدح السعي بجهد، كمن يكدح في طلب العيش، والمعنى يا أيها الإنسان إنك ساعٍ إلى ربك في عملك، وبعضهم يقول: ساع إلى لقائه، إلى لقاء ربك، وإن أريد بهذا المعنى - في لقاء ربك - أن هذا يتضمن العمل الذي يصدر من الإنسان فإن الإنسان حارث، وهمام، فهو لا ينفك عن عمل، ولا عن هم وإرادة، وإنما تصدر الأعمال ابتداء من الهم، والإرادة، وبعضهم كقتادة، والضحاك يقول: "كادح إلى ربك" يقول: عامل لربك عملاً، فملاقٍ عملك، ابن قتيبة يقول: عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك، أي: تلقى ربك بعملك، وابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: ساعٍ إلى ربك سعيًا، وعامل عملاً، السعي في اللغة يأتي بمعنى العمل - أيضًا -، كما يأتي بمعنى المشي، أو ضرب من المشي، فالسعي هنا يمكن أن يفسر بالعمل، ساعٍ إلى ربك، ابن كثير يقول: ساع إلى ربك بمعنى عامل، هكذا قال بعض السلف ، فهنا السعي هذا الذي بمعنى أن الإنسان منذ أن يولد يخرج من بطن أمه، والساعة لا تتوقف فهو منطلق مثل الرصاصة حتى تبلغ مداها، يعني كل يوم العمر ينقص، فهو ليس في زيادة، هو يظن أنه يكبر، وينمو، نعم هو يكبر في الصورة وينمو لكن الواقع أنه منذ أن ولد وعمره في نقص إلى أن يموت، فهذا الإنسان في هذه الحياة في هذا المسير في هذه الرحلة تصدر منه أعمال كثيرة، وأقوال، وممارسات، فهو يعمل، ولم يزل يعمل يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح أي ساعٍ، يفسر السعي هنا بالسير إلى الله، هذا السير إلى الله ما هو؟ ما طبيعته؟ المشي على الأقدام؛ لأن السعي يأتي بمعنى الضرب من المشي، لا السعي بمعنى العمل، ساعٍ إلى ربك، فيكون الكدح هنا بمعنى العمل، فابن كثير يقول: ساعٍ إلى ربك سعيًا أي عامل يعمل، فملاقيه، والضمير في قوله: فَمُلَاقِيهِ إذا تبين أن الكدح هو العمل بجهد فكل إنسان يعمل كما قال النبي ﷺ وهذا من أحسن ما يفسر به -: كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها[2]، يعني كل الناس في كدح، وعمل، فلم تزل خواطره، وفؤاده كل ذلك يتوقد بالإرادات، والأفكار، والخواطر، وجوارحه لا تكاد تتوقف، فهو يعمل لكن هذا العمل إما أن يقربه، وإما أن يبعده، إما أن يوبقه، وإما أن يخلصه، كل الناس يغدو، فهذا معنى يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، الكدح هنا آخر ما ذُكر، "فملاقيه" الضمير يرجع إلى ماذا؟.

كادح إلى ربك فملاقيه: ملاقٍ ربك، أو كادح إلى ربك كدحًا كما قال الله : فَمُلَاقِيهِ أي: ملاق الكدح باعتبار أنه آخر مذكور، فإلى أي شيء يرجع الضمير؟، إذا عملنا على قاعدة الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو "كدحًا" فيكون ملاق كدحك، ستلقى عملك، وهذا دل عليه القرآن، والله يقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف:49]، ويَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [سورة النبأ:40] فهو يلاقي عمله، فهذا المعنى صحيح، فَمُلَاقِيهِ أي: فملاق عملك، ستجد نفس العمل الذي عملته، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الرب - تبارك وتعالى - كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فملاق ربك، وهذا المعنى صحيح، والله - تبارك وتعالى - يقول: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [سورة الأنعام:30]، فالله  يحاسب عبده، والعبد يلقى ربه للحساب، والجزاء، فهذه المعاني صحيحة، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة لاسيما إذا كان بين هذه المعاني ملازمة، فإذا كان العبد سيلقى ربه فإنه يجازيه على عمله، فهذا يقتضي أنه يلاقي عمله، فالعبد يلقى عمله، ويلقى ربه، وهذا مما يمكن أن تجمع فيه الأقوال لاحتمال مرجع الضمير، وله نظائر كثيرة في القرآن، وذكرنا في مناسبات شتى أمثلة لذلك منها آية الكرسي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] علم ماذا؟ من علم الله، أو من علم ما بين أيديهم، وما خلفهم؟

هنا أحد القولين يتضمن الآخر، فعلم الله من ضمنه علم ما بين أيديهم وما خلفهم، فهو بعض علم الله فمثل هذا لا إشكال في أن يقال: يرجع الضمير إلى هذا وهذا - والله أعلم -.

يَا أَيّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك عامل إلى ربك فملاقيه، فملاق ربك، وأنت أيضًا ستلاقي عملك، بعضهم يقول: ملاق كتاب عملك، الكتاب دونت فيه الأعمال، وبعضهم يقول: تلاقي ربك بعملك، يعني جمع بين القولين، هذه عبارة ابن قتيبة - رحمه الله -، هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير قال: وعلى هذا فكلا القولين متلازم، قال العوفي عن ابن عباس: يقول: تعمل عملاً تلقى الله به خيرًا كان، أو شرًّا، لاحظ هذه العبارة لو ثبتت عن ابن عباس، لكن المعنى جيد، إذا تأملت العبارة فهي تتضمن القولين، تلقى الله بعملك، ورواية العوفي عن ابن عباس ضعيفة، لكن المعنى حسن، وهذا الذي قاله ابن جرير - رحمه الله - ، تلقى ربك بعملك، فيكون الضمير يرجع إلى الرب - تبارك وتعالى - وإلى العمل. 

  1. رواه أبو داود الطيالسي، برقم (1862)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4355).
  2. رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).