الأحد 25 / ذو الحجة / 1446 - 22 / يونيو 2025
فَمَهِّلِ ٱلْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًۢا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أي: أنظرهم، ولا تستعجل لهم.

أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا أي: قليلا، أي: وسترى ماذا أُحِل بهم من العذاب، والنكال، والعقوبة والهلاك، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24].

آخر تفسير سورة الطارق، ولله الحمد والمنة."

قوله: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا أي: أمهلهم قليلاً، يكفي هذا القدر، ومن أراد أن ينظر فيما يحتمله هذا اللفظ من وجوه الإعراب فيمكن أن يرجع إلى كلام ابن القيم - رحمه الله -، أو إلى غيره.

والكيد صفة ثابتة لله ولا يشترط فيها ما يقوله بعض أهل العلم: إن ذلك لا يكون إلا بمقابل، يعني: مقابل كيد الكائدين، أو الكافرين، بعض العلماء يقولون: الكيد لا يكون إلا مقابل كيد، يعني: يكيدون، وأكيد، وهذا ليس بلازم، يعني هنا قال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، فقابل كيدهم بكيده فقال: وَأَكِيدُ كَيْدًا، ولكن هذا ليس بشرط، قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]، فما ذكر كيدهم، فتجدون بعض أهل العلم من أهل السنة إذا تكلموا عن مثل هذه الصفة قالوا: هذا لا يكون إلا بمقابل، وهذا ليس بلازم، فالكيد صفة ثابتة تكون كمالاً حيث كان هذا الكيد محمودًا، وهذا هو الذي يثبت لله منها، فالكيد صفة لا تكون من صفات المدح، والكمال بإطلاق، وإنما قد تكون صفة كمال، وقد تكون صفة نقص، فيرجع إلى الله  منها ما كان كمالاً، يعني: الكيد بمن يستحق ذلك، فبعض أهل العلم كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يقول: لو أن مفسدًا يتعدى على دماء الناس، وعلى أموالهم، وعلى أعراضهم، ولا يسلم منه أحد، وتأذى الناس منه غاية الأذية، فجاء من توصل بطرق خفية حتى أوقعه في مغبة فعله، فإن هذا يكون محمودًا، فهذا الكيد الذي يكون محمودًا. 

وانظر إلى قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]، فهذا يوضح لك المراد بالكيد، يعني: هذا الكيد يكون بأمور منها: الإملاء لهؤلاء، يعني: يعطيهم المال، ويعطيهم الصحة، ويطيل في أعمارهم؛ ليزدادوا إثمًا، فيأتي الواحد منهم إلى الله - تبارك وتعالى - وقد حمل الأحمال التي تكون زادًا له إلى النار، فهو حينما يرى العطاء متتابعًا، والعمر مديدًا يغتر بذلك، ويمعن في غيه، وما علم أنه بهذا مثل القط الذي يلحس مِسن الجزار، فهو يجد فيه بعض بغيته من بقايا اللحم، وبقايا الدم، ثم ما يلبث أن يتشقق لسانه فينزف على هذا المسن، ويلعقه حتى يهلك، وهو يظن أن هذه هي البقايا التي كانت في المسن، فحال هؤلاء كهذا تمامًا، ويكون هذا العطاء مثل الطعم لهم، فيمعنوا، ويرتعوا فيه المرعى الوخيم، حيث يستهويهم، ويستلذونه، وما علموا أنه السم الفتاك، وهذا مثل الذي يقدِّم لشيء من المؤذيات طعامًا فيه السم مما تحبه هذه الهوام، أو الدواب، فتقبل عليه بشراهة، وهو حتفها، فهؤلاء كهذه الهوام، فهذا العطاء الذي يكون لهذه النفوس العليلة التي تريد أن تطفئ نور الله - تبارك وتعالى - هو مجرد كيد وإملاء لهم، قال الله  : وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]، قوله: لِيَزْدَادُوا اللام للتعليل، وقد يستغرب الإنسان ويقول: هؤلاء يفعلون هذه الأفاعيل، ومع ذلك هم في عافية، أقول: هي عافية مؤقتة يعقبها ليل طويل بلا انقضاء، وحسرات ما تنتهي، فهذا هو الطعم الذي يلعقونه الآن، وهذا الطعم قد تكون مدته عشر سنوات، عشرين سنة، فهذه المدة - أي: مدة اللعق - بالنسبة إلى مدة الحياة المديدة الطويلة من أول ما خلق الله الدنيا إلى ما لا نهاية في الجنة، أو النار، مدة اللعق هذه ولا شيء، فيقومون يوم القيامة ويُقسمون: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، فهذه المتع، والعطاء لمثل هؤلاء هو إملاء، وكيد لهم.

وأما ما يقوله بعضهم من أن ذلك من قبيل المشاكلة في اللفظ، فالواقع أن هذا غير صحيح، وأن المشاكلة نوع من أنواع المجاز، يعني يقول: عبّر بالكيد مشاكلة للعبارة الأخرى، وهي: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [الطارق:15]، فأضاف الكيد إليهم، فسمى ما أضاف إلى نفسه كيدًا، من باب المشاكلة اللفظية فقط، وهذا غير صحيح؛ لأن المشاكلة نوع من المجاز، يعني: أنه لا حقيقة لهذه الصفة بالنسبة لله والله لا يوصف بهذا، وإنما هي فقط تعبير لفظي لمشاكلة اللفظ الذي قبله، مثلما قال الشاعر:

قالوا اقترحْ شيئًا نُجدْ لك طبخَه قلتُ اطبخوا لي جُبّةً وقميصًا

فالجبة، والقميص لا يطبخان، لكن هم لمّا سألوه عن طعام يصنعونه له، وقالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه، وهو بحاجة إلى لباس، ولم يكن بحاجة إلى طعام، قال: قلت: اطبخوا لي جبة وقميصًا، فهذه مشاكلة، فهذه الصفات التي يذكرها الله ليست كذلك  - والله أعلم -.