الجمعة 23 / ذو الحجة / 1446 - 20 / يونيو 2025
ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قال المؤلف - رحمه الله تعالى - : تفسير سورة الطارق، وهي: مكية."

هذه السورة سورة الطارق تتحدث بعد الأقسام التي أقسم الله - تبارك وتعالى - في أولها على قضية وهي: أن كل نفس عليها حافظ، فهذه السورة تتحدث عن إحاطة الله - تبارك وتعالى - بهذا الإنسان، وإحصائه لعمله، وما يصدر عنه، وأن الله قادر عليه، فهو الذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة المهينة، فهو قادر على أن يعيده ثانية، هذا موضوع هذه السورة.

"وروى النسائي عن جابر ، قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء، فقال النبي ﷺ: أفتان أنت يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق، والشمس وضحاها، ونحوها؟[1] ."

هذه الرواية عند النسائي في السنن الكبرى، وليست في الصغرى، قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة، والنساء، فقال النبي ﷺ: أفتان أنت يا معاذ؟، والروايات المشهورة في قصة معاذ  أنه كان يصلي لهم العشاء، وفي سائر الروايات أيضاً الصحيحة الثابتة أن النبي ﷺ لم يذكر له الطارق[2]، كما مضى، وكما سيأتي أيضاً، فهذه الرواية مخالفة للروايات الأخرى الثابتة المشهورة في الصلاة التي كان يصليها معاذ لأصحابه، فهو كان يصلي مع النبي ﷺ العشاء، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي لهم، وليس فيها ذكر المغرب، كذلك ليس فيها ذكر الطارق - والله أعلم -.

"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. 

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۝ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ۝ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ۝ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۝ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ۝ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ۝ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۝ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق:1 - 10].

قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: يقسم - تبارك وتعالى - بالسماء، وما جعل فيها من الكواكب النيرة، ولهذا قال تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، ثم قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، ثم فسره بقوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ.

قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقاً؛ لأنه إنما يرى بالليل، ويختفي بالنهار، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: نَهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً[3]، أي: يأتيهم فجأة بالليل."

قوله - تبارك وتعالى -: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ هذان قَسَمان: أقسم بالسماء، وأقسم بالطارق، ثم فسر الطارق بقوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إذًا هذا تفسير للقرآن بالقرآن بلفظ يتصل به، فمثل هذا لا مجال لاجتهاد المفسر فيه؛ لأن تفسير القرآن بالقرآن منه ما يدخله اجتهاد المفسر، فقد يفسر آية بآية يربط بينهما، وتكون تلك الآية في موضع آخر لا ترتبط بهذه؛ فيخطئ المفسر بهذا الاعتبار، وهذا ذكرناه في مناسبات سابقة في الكلام على أنواع التفسير، وأن قولهم: إن تفسير القرآن بالقرآن هو أعلى أنواع التفسير، وأفضل أنواع التفسير، أن المقصود بذلك: الجنس، أما الأفراد، والأمثلة فهذه يتطرق إليها الخطأ من جهة المفسر، لكن إذا جاء تفسيره في القرآن بعده كقوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۝ النَّجْمُ الثَّاقِبُ فهذا لا إشكال فيه، فلا يحتاج بعد ذلك إلى غيره، لكن هذا النجم هل هو نجم معين، أو المقصود بذلك كل ما يصدق عليه هذا؟ وما وجه هذه التسمية بالطارق، أو لماذا النجم سمي بالطارق؟ الواحدي ينقل عن المفسرين: أن المراد بذلك: الكواكب التي تطرق بالليل، وتختفي بالنهار، يعني: النجوم، قيل له: طارق؛ لكونه يظهر ليلاً، ويختفي نهارًا، باعتبار أن ما أتاك ليلاً فهو طارق، يعني: العرب تقول لمن يطرق، أو يأتي، أو يظهر، أو يرد ليلاً: طارق، من إنسان، أو حيوان، أو نجم، أو غير ذلك، لكن المقصود هنا النجوم؛ لأن الله فسره به، وإلا فالطارق في لغة العرب يشمل كل ما يطرق ليلاً، هكذا قال العلماء من المفسرين، وأصحاب المعاني، وأهل اللغة كالفراء، والزجاج، والمبرد، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير - رحمه الله -، وكلام ابن القيم في هذا، فهذه النجوم قيل لها ذلك؛ لكونها تظهر ليلاً، وتختفي نهارًا، لكن بقي الخلاف بينهم: هل هو نجم معين، أو لا في قوله: النَّجْمُ الثَّاقِبُ؟ هذا النجم الذي سمي بالطارق ما هو؟ هل هو النجوم عمومًا، أو نجم معين؟ فبعضهم يقول: إنه نجم معين، بعضهم يقول: زحل، وبعضهم يقول: الثريا، وبعضهم يقول: هي النجوم التي ترمى بها الشياطين، وبعضهم يقول: هي جنس النجوم، وهذا الذي اختاره ابن القيم - رحمه الله -، فالنجوم التي تظهر ليلاً، وتختفي نهارًا هي النَّجْمُ الثَّاقِبُ، وهذا هو الأقرب - والله أعلم - ألا يحدَّ ذلك بنجم بعينه.

وهناك من فهم أن المقصود، والمراد بذلك النجم الطارق هو: ما يصدر عنه صوت يشبه الطرق، هذا قاله بعض المعاصرين ممن يتكلمون عن الإعجاز العلمي، فالطارق لم يفسروه بالذي يطرق ليلاً، كما هي لغة العرب، وكما هو المعروف من كلامهم، وإنما فهموا من كلمة الطارق أنه هو الذي يطرق الباب مثلاً، وأصل هذه المادة في لغة العرب: أن ذلك يكون في حق ما يطرق ليلاً، وإن لم يحصل صوت، أو طرق، أو نحو ذلك، فالعرب لا تقيده بهذا، فقوله: إلا طارقًا يطرق بخير[4] ليس معناه يطرق الباب، وإنما يرِد، أو يأتي، فكل ما ظهر ليلاً، أو وردك ليلاً، أو جاءك ليلاً فهو طارق، ولهذا نهى النبي ﷺ أن يطرق الرجل أهله طروقًا، ومعنى يطرقهم: أن يأتيهم ليلاً، ليس المقصود: النهي عن طرق الباب، فإذا كان الباب مفتوحًا دخل، أو معه مفتاح دخل، لا، إنما المقصود: ألا يرِد عليهم، أو ألا يدخل عليهم ليلاً، وقد قدم من سفر، هذا الحكم قبل وجود أجهزة الاتصال، وكونهم يعرفون أنه سيأتي، وينتظرونه.

فهذا المجيء ليلاً يقال له: طروق، وهؤلاء ماذا فهموا؟ هم فهموا الدَّق من قول الناس اليوم: طرق الباب، يعني: دق الباب، وهذا غير مراد إطلاقًا، فهذا الطرق الذي بمعنى دق الباب يكون في الليل وفي النهار، فيقول: إنه اكتُشف نجم له صوت يطرق أي: يدق، فهذا هو الطارق، يعني: أن السلف، وأهل اللغة هؤلاء جميعًا ما فهموا الآية، هم ذهبوا على أنه الطروق بالليل من غير صوت، ولا تصويت، وهو فهمه على هذا الفهم الذي لا تتوجه إليه أذهان العرب عند ذكر الطروق، فهذا الكلام غير صحيح، ولا يُفرح بمثل هذه الأشياء.

هذه الأيام أشغلنا الناس بالسؤال حتى إنه بمجرد ما يبدأ الشخص يذكر قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] يقاطعه ويقول له: هذا غير صحيح، ويقول: هناك من يقول: لا يُعرف في لغة القرآن، وكلام العرب أن الجمل هو البعير، وإنما الجمل هو: حبل السفينة، وينكر أن يكون البعير، ويقول: ليس هناك علاقة بين البعير وبين سم الخياط حتى يُذكر في الآية، وهذا كلام كبير جدًّا لا يقبل إطلاقًا، ويستحي الإنسان أن يسمعه، بالسماع فقط يجد الإنسان حرجًا، لا يمكن أن يقال هذا، حتى الصغار، والأطفال يدركون أن الجمل هو البعير، وأنا كنت أتعجب من بعض الأشياء التي تذكر في بعض كتب اللغة، وغيرها، يعني: بعض أئمة اللغة يُذكر في ترجمته أنه كان هناك من يتمحلون في سؤاله، فقال له: ما الجمل؟ قال: البعير، قال: ما البعير؟ قال: ذو القوائم الأربع، قال: وما هو؟ فصار هذا عالم اللغة في المسجد في أثناء الدرس يمشي على أربع أمام الناس، ويقول: الذي يقول هكذا، يعني: الذي يمشي بهذه الطريقة، ابن مسعود يقول لمن سأله: ولد الناقة، يعني: أما تعرف الجمل؟

فهذه السؤالات تفضي إلى ضجر هؤلاء الأئمة، فإذا رأى الإنسان مثل هذه الدعوى الكبيرة من أن الجمل ليس هو البعير يقول: هؤلاء معذورون بهذا الضيق من هذه الدعاوى الفجة.

فالجمل هو البعير، والعلاقة واضحة: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فالعرب لا زالوا إلى اليوم يقولون: الباب يسع جملا، يعني: واسعًا، لكن سم الخياط ما يدخل منه الجمل، وهذه طريقة العرب، وهذه لغتهم؛ ولهذا يقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب 

إذا شابَ الغرابُ أتيتُ أهلي وعاد القارُ كاللبنِ الحليبِ

الغراب ما يمكن أن يشيب، يقولون: حتى تشيب مفارق الغربان، لا يمكن أن يشيب مفرق الغراب، ولا يعود القار الأسود إلى بياض كالحليب، وكما يقولون أيضاً: حتى يعود اللبن في الضرع، فهذا كله جارٍ على لغتهم، ومعروف في مخاطباتهم، فلا يمكن أن يرِد مثل هذا الكلام، ولا أن يقبل، وكلام أهل العلم من المفسرين سلفًا، وخلفًا في تفسير الجمل بأنه البعير هو الأشهر، وهو معروف عند أهل اللغة، ومتبادر عند الإطلاق في القرآن، فلابد أن يُترك هذا كله، وينكر من أصله، فالمسألة ليست مجرد ترجيح أيضاً، والناس يروجون هذه الأشياء، ويقلبونها، وتنتشر انتشار النار في الهشيم.

"وقوله تعالى: الثَّاقِبُ قال ابن عباس: المضيء، وقال عكرمة: هو مضيء ومحرق للشيطان."

عبارات السلف تجد مثل هذا: مضيء، ومحرق، مجاهد يقول: متوهج، ابن جرير يقول: يتوقد ضياؤه، ويتوهج، فالثاقب: شديد التوقد، أو شديد التوهج، أو شديد الإضاءة، ابن القيم يقول: يثقب ضوءُه، يعني: له ضياء قوي متوهج شديد.

  1. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، سورة الطارق، رقم: (11600).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من شكا إمامه إذا طول، رقم: (705)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم: (465).
  3. أخرجه البخاري، أبواب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة، رقم: (1801)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق، وهو الدخول ليلا لمن ورد من سفر، رقم: (1928).
  4. أخرجه أحمد، رقم: (15460)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (2/ 495)، رقم: (840).