"وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27].
وقوله تعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يعني: المني، يخرج دفقاً من الرجل، والمرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله ؛ ولهذا قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ يعني: صلب الرجل، وترائب المرأة وهو: صدرها.
وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ صلب الرجل، وترائب المرأة، أصفر رقيق لا يكون الولد إلا منهما."
قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، الله قادر على هذا الإنسان، هو الذي خلقه من هذه المادة الضعيفة، وهو قادر على إعادته ثانيًا، كما أنه محيط به من كل وجه.
قوله: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يعني: يخرج دفقًا، الدفق هو: صب الماء، تقول: دفقَه يعني: صبه، فهذا الصب هو الذي يقال له: الدفق، وما دونه لا يكون دفقًا، يعني: إذا كان مجرد إفراز مثلاً لا يقال له: دفق، يعني: خروج المذي مثلاً شيئًا بعد شيء أشبه ما يكون بالإفراز، فمثل هذا لا يقال له: دفق؛ ولذلك ما يوجب الغسل من خروج الماء مقيد بهذا القيد مع القيد الآخر: خروج الماء دفقًا بلذة، فلو خرج من مرض لا يوجب الغسل، ولو أنه خرج من غير دفق، يعني: بمعنى أن الوطر، واللذة لم تستتم، فخرج شيء يسير لا يكون دفقًا، فمثل هذا لا يوجب الغسل.
دَافِقٍ قيل: بمعنى فاعل، أي ذو دفق من النسبة، أو مفعول أي مدفوق.
يقول: "من الرجل والمرأة، فيتولد منهما الولد، قال: ولهذا قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ يعني: صلب الرجل، وترائب المرأة وهو: صدرها".
هذا القول هو الذي عليه عامة المفسرين، أن المقصود بقوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، أن الصلب: صلب الرجل، الترائب: ترائب المرأة، أي: أن ذلك يرجع إلى الرجل، والمرأة معًا، وليس ذلك من صفة الرجل وحده، هذا الذي عليه عامة السلف، ومن بعدهم، ومن تأمل كلامهم، وأقوالهم رأى ذلك، فالضحاك يقول: ترائب المرأة، وإن اختلفوا في معنى الترائب، فالضحاك يفسر ترائب المرأة باليدين، والرجلين، والعينين، يعني: كأنه يخرج من جميع أجزاء الجسد، الرأس والأطراف، وما بين ذلك، وسعيد بن جبير يقول: الجِّيد، والجيد: العنق، وهو بمعنى قول من قال: موضع القلادة، ومجاهد يقول: ما بين المنكبين، والصدر، ما الذي بين المنكبين، والصدر؟ هو موضع القلادة، وجاء عنه: الترائب يعني: الصدر، وجاء عنه: التراقي، ما هي التراقي؟ العظم الممتد ما بين الكتف إلى الثغرة التي في النحر، العظم الناتئ يقال له: ترقوة، قال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]، فجاء عن مجاهد: أن الترائب هي: التراقي، وهذا كله يرجع إلى الصدر، وعظام الصدر، والنحر، هذه هي الترائب، وبعضهم يقيد ذلك يقول: أربعة أضلاع عن يمين الصدر، وأربعة عن يساره، يعني: في الأعلى، وبعضهم يقيد ذلك بضلعين عن اليمين، وعن الشمال تحت الترقوتين، وبعضهم يقول: ما بين الثديين، والترائب: جمع تريبة، فهم يقولون: موضع القلادة.
إذاً الترائب هي: الصدر، أو عظام الصدر، أو نحو ذلك، يعني: هذا الموضع، فعامة هؤلاء يقولون: إن الترائب هي: عظام الصدر، أو الصدر، أو موضع القلادة من المرأة، إذًا الترائب ترجع إلى المرأة، والصلب إلى الرجل، فيكون من مجموع الماءين، ويدل على هذا الأحاديث: لما سئل النبي ﷺ عن اغتسال المرأة إذا احتلمت، فلما واجه هذا السؤالُ شيئًا من الحرج بقولها: أوتحتلم المرأة؟ لما قالت أم المؤمنين: فضحت النساء، فقال النبي ﷺ: ففيم يشبهها الولد؟ أي: تحتلم المرأة، ثم قال النبي ﷺ: إذا رأت الماء[1]، فدل على أنها تحتلم، وأن لها ماء، وأن هذا الماء يُخَلَّق منه الولد أيضاً، لقوله: ففيم يشبهها الولد؟ مع الحديث الآخر: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة[2]، وفي قوله ﷺ: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة[3]، فذكر ﷺ في الحديثين: الإذكار، والإيناث، وذكر الشبه، ويأتي - إن شاء الله - الكلام على هذا، لكن كل هذا يرجع إلى أنه يخلق من مجموع الماءين، لكن من أهل العلم من يقول: إن الصلب، والترائب كل ذلك يرجع إلى الرجل، أي: صلب الرجل، وترائب الرجل، والمقصود بالصلب: العمود الفقري، هذا هو الصلب، والترائب: عظام الصدر، وبعض هؤلاء يقولون: إن الذي ذكر من موضع القلادة، وما أشبه ذلك باعتبار أن هذا يرد كثيرًا، يعني: هذا اللفظ، أو هذه العبارة، وهي: الترائب في أوصاف النساء شعرًا ونثرًا، يقولون: فحينما يذكر أهل اللغة، أو السلف الترائب ويقولون: ترائب المرأة، أو موضع القلادة، يقصدون: تحديد المكان فقط، لا أنها ترائب المرأة في الآية، وهذا الكلام فيه نظر، فإنهم يقصدون أنها ترائب المرأة فعلاً، وليس البيان للمعنى اللغوي أين الترائب.
إذًًا الأكثر على أنه صلب الرجل، وترائب المرأة، لكنه ليس محل اتفاق، فبعضهم يقول: صلب الرجل، وترائب الرجل، لكن حتى على هذا القول تبقى الأحاديث تدل على أن ماء المرأة يخلّق منه أيضاً الجنين، إلا أن الأطباء من المعاصرين لا يقرون هذا ولا يذكرونه، وإنما يقولون: إنه يخلق من ماء الرجل، فيلقح الحيوان المنوي، ولا يثبتون أن المرأة لها ماء أصلاً، ما رأيت أحدًا منهم يثبت هذا على كثرة تتبع كلامهم، فماذا يقولون في هذه الأحاديث؟ نقول: الآية تحتمل القولين، لكن الأحاديث واضحة، فماذا يقولون؟ يقولون: هو تلقيح البويضة، فإذا لقحت البويضة حصل الحمل، لكن ماذا يقولون في ماء المرأة والنبي ﷺ وصفه بدقة؟ وانظر إلى عبارة ابن كثير هنا يقول: "يخرج دفقًا من الرجل والمرأة، فيتولد منهما بإذن الله ... إلى آخره، قال: قال ابن عباس: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ صلب الرجل، وترائب المرأة، أصفر رقيق"، يقصد: هذا وصف ما كان بالنسبة للمرأة: أصفر رقيق، هكذا يصفه الفقهاء: أصفر رقيق.
فكلام الأطباء المعاصرين مردود، وإن كانت الآية تحتمل؛ لكنه مردود بالأحاديث، وما رأيت لأحد من المعاصرين كلامًا يشفي في هذا الموضوع، بحيث يكون مبناه على الجمع بين النصوص، الطاهر بن عاشور - رحمه الله - له كلام جيد في هذه القضية، ومفيد، وفيه تفاصيل ما رأيته لغيره، يقرب لك شيئًا من هذا، يقول في جملة كلامه: "الترائب تضاف إلى الرجل، وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء؛ لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.."[4].
يعني: الآية تحتمل في الترائب، هل القصود الرجل، أو المرأة؟
يقول: "وقوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ الضمير عائد إلى الماء الدافق، وهو: المتبادر، فتكون جملة يَخْرُجُ حالاً من قوله: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أي: يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل، وترائبه..."[5].
فهو هنا مشى على أن ذلك يرجع إلى الرجل، لكنه لم ينكر الأمر الآخر بالنسبة للمرأة.
يقول: "وبهذا قال سفيان، والحسن، أي: أن أصل تَكَوُّن ذلك الماء، وتنقله من بين الصلب، والترائب، وليس المعنى: أنه يمر بين الصلب، والترائب..."[6].
ابن عاشور يقول: يتكون، وليس ذلك مجراه، وطريقه فقط، لا، هو يقول: يتكون ما بين الصلب، والترائب.
يقول: "إذ لا يتصور ممر بين الصلب، والترائب؛ لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر، والضلوع من قلب، ورئتين، فجعل الإنسان مخلوقًا من ماء الرجل؛ لأنه لا يتكون جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل، فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة، وهو: شيء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكون منه الجنين، ويطرح ما عداه..."[7].
فهو يقول: ماء رقيق يحتوي على بويضات، يعني: ليس هو البويضة.
يقول: "وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل، مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل وماء المرأة بذكر الترائب؛ لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة، ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة، فيتكون من ماء الرجل، وهو سائل فيه أجسام صغيرة..."[8].
ثم ذكر الأوصاف المعروفة التي يقولها أهل العصر الحديث، وذكر مقرها، واندفاعها إلى آخره.
يقول: "ومِن ماءٍ هو للمرأة كالمني للرجل، ويسمى: ماء المرأة - انظر هو ما أنكره - وهو: بويضات دقيقة كروية الشكل، تكون في سائل مقره حويصلة من حويصلات يشتمل عليها مبيضان للمرأة، وهما بمنزلة الأنثيين للرجل، فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مبيض يشتمل على عدد من الحويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين، وخروج البويضة من الحويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة، فإذا انتهى نموها انفجرت، فخرجت البويضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البويضة النمو، وخروجها من الحويصلة في وقت حيض المرأة؛ فلذلك يكثر العُلوق - يعني: الحمل - إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها..."[9].
يعني: إذا اغتسلت من الحيض طهرت، فهذه المدة القريبة من الحيض هي أكثر احتمالاً للحمل.
يقول: "وأصل مادة كلا الماءين مادة دموية - أي: بالنسبة للرجل والمرأة - تنفصل عن الدماغ، وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو: الصلب، ثم ينتهي إلى عرق ما يسمى الحبل المنوي، مؤلف من شرايين، وأوردة وأعصاب، وينتهي إلى الأنثيين، وهما الغدتان اللتان تفرزان المني، فيتكون هنالك بكيفية دهنية، وتبقى منتشرة في الأنثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية، وذلك عند دغدغة، ولذع القضيب المتصل بالأنثيين، فيندفق في رحم المرأة، وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقان اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة، وهو: الترائب؛ لأن فيه موضع الثديين، وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل، والحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم، وهي: عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض، وتنقبض عقب الطهر، والرحم يأتيها عصب من الدماغ، يقول: وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن..."[10] إلى آخره.
هذا كلام فيه تفصيل غير ما يذكره الأطباء، يعني: فيه زيادة على كلام الأطباء، فهو يتكلم عن نزوله، ومجراه، وإلى آخره، أي: ما بين الصلب، والترائب، وتكوُّن ماء الرجل، وتكوُّن ماء المرأة، وهذا شيء مشاهد، فإن هذا الماء ينسل من أجزاء الجسد؛ ولذلك بعض السلف يقول عما ينزل مما بين الصلب، والترائب: عصارة القلب، هكذا فسره، فهو ينسل من أجزاء الجسد؛ ولهذا يحصل بعده الفتور، فيعوض ذلك بالاغتسال، فيتجدد النشاط، ويعود، وابن القيم له كلام جيد في الطرق الحكمية في هذا الموضوع، وهو ذكره في عدد من كتبه، فذكره في زاد المعاد، وذكره أيضاً في مفتاح دار السعادة، وفي بدائع الفوائد، لكن نحن ننظر في الطرق الحكمية ففيه حاصل ما ذكره في المواضع الأخرى.
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6] يعني: أنه ذو دفق، أو أنه مدفوق، والدفق قلنا: هو صب الماء.
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:7] فيه قولين على ما ذكرنا: أن ذلك يرجع إلى الرجل، يخرج من بين صلبه، وهو: العمود الفقري، وترائبه، وهي: عظام الصدر، أو موضع القلادة منه، وعلى القول الآخر أنه يخرج ما بين صلب الرجل، وترائب المرأة، وهي: عظام الصدر، أو العظام العليا من الصدر.
وهذا كلام ابن القيم - رحمه الله - في الطرق الحكمية الذي أشرنا إليه سابقاً:
هنا يتكلم ابن القيم عن حديثين: الحديث الأول وهو: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة[12]، والثاني: إذا سبق[13]، هذان الحديثان جاء فيهما: مسألة الشبه، ومسألة الإذكار، والإيناث، فعندنا: سبْق، وعندنا: علوّ، وعندنا: إذكار، وعندنا: إيناث.
وهو يتكلم على موضوع القافة، ومعرفة الشبه، والحكم بها من ناحية الحكم، والقضاء، وإلحاق الولد بالشبه.
هنا أثبت الشبه من أنه يخلق مما يكون منها أيضاً.
"قال: "ولمسلم من حديث أنس بن مالك عن أم سليم - ا - قالت: وهل يكون هذا يعنى: الماء؟، فقال نبي الله ﷺ: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمِن أيِّهما علا أو سبق يكون منه الشبه[16].
وعن عائشة - ا -: أن امرأة قالت لرسول الله ﷺ: هل تغتسل المرأة إذا هي احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: نعم فقالت لها عائشة: تربت يداك، فقال لها رسول الله ﷺ: دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قِبل ذاك؟ رواه مسلم[17].
وله أيضا من حديث أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان قال: كنت قائمًا عند رسول الله ﷺ فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك - الحديث بطوله - إلى أن قال: جئت أسألك عن الولد، فقال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله[18].."[19]."
يعني: يأتي المولود ذكرًا أو أنثى، إذا علا يعني: صار هو الأعلى.
أي: شيخ الإسلام ابن تيمية.
يعني: إذا علا ... أذكرا.
قوله: نزع يعني: في الشبه.
"قال: "فهذا السؤال الذي سأل عنه عبد الله بن سلام، والجواب الذي أجابه به النبي ﷺ هو غيرالسؤال الذي سأل عنه الحبر، والجواب واحد، ولاسيما إن كانت القصة واحدة، والحبر هو: عبد الله بن سلام، فإنه سأله وهو على دين اليهود، فأُنسي اسمه، وثوبان قال: "جاء حبر من اليهود"، وإن كانتا قصتين والسؤال واحد فلابد أن يكون الجواب كذلك، وهذا يدل على أنهم إنما سألوا عن الشبه؛ ولهذا وقع الجواب به، وقامت به الحجة، وزالت به الشبهة.
وأما الإذكار والإيناث فليس بسبب طبيعي، وإنما سببه الفاعل المختار الذي يأمر الملك به، مع تقدير الشقاوة، والسعادة، والرزق والأجل؛ ولذلك جمع بين هذه الأربع في الحديث: فيقول الملك: يا رب ذكر، يا رب أنثى، فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك[24]، وقد رد سبحانه ذلك إلى محض مشيئته في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:49-50].
والتعليق بالمشيئة - وإن كان لا ينافي ثبوت السبب بذلك - إذا عَلم كون الشيء سببًا دل على سببيته بالعقل، وبالنص، وقد قال ﷺ في حديث أم سليم: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فمِن أيِّهما علا أو سبق يكون الشبه، فجعل للشبه سببين: علو الماء وسبقه.
وبالجملة: فعامة الأحاديث إنما هي تأثير سبق الماء، وعلوه في الشبه، وإنما جاء تأثير ذلك في الإذكار والإيناث في حديث ثوبان وحده، وهو فرد بإسناده، فيحتمل أنه اشتبه على الراوي فيه الشبه بالإذكار والإيناث، وإن كان قد قاله رسول الله ﷺ فهو الحق الذي لا شك فيه، ولا ينافي سائر الأحاديث، فإن الشبه من السبق، والإذكار، والإيناث من العلو، وبينهما فرق، وتعليقه على المشيئة لا ينافي تعليقه على السبب، كما أن الشقاوة، والسعادة والرزق معلقات بالمشيئة، وحاصلة بالسبب، والله أعلم.."[25].
خلاصة هذا الكلام: أن شيخ الإسلام، وابن القيم يرون أن المحفوظ هو لفظ: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، يعني: صار يشبهه، والعكس بالعكس، يعني: في مسألة الشبه، وأن اللفظ الآخر وهو: إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرا: غير محفوظ، ثم الحافظ ابن القيم بعد ذلك يقول: إن الله - تبارك وتعالى - يبعث الملك فيؤمر بأربع كلمات، منها: هل هو ذكر، أو أنثى؟ وقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]، قال: هذا يرجع إلى مشيئته، وغير معلق على سبب مادي كهذا، يقول: ولو كان ذلك اللفظ محفوظًا فهذا لا ينافي التعليق على المشيئة: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ لكون هذا المعلق على المشيئة قد ربط بسبب، وهذه الأسباب كما هو معلوم لا تخرج عن مشيئته - تبارك وتعالى -، ولكن الله أجرى هذا الكون على سنن، وكل ذلك يرجع إلى مشيئته، وإرادته - -.
فكل هذه الأحاديث تدل على أن ذلك يحصل من مجموع الأمرين، سواء كانت مسألة الإذكار ،والإيناث إن كان ذلك محفوظًا، أو كان مما يتعلق بالشبه، والأكثر على أن قوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ: صلب الرجل، وترائب المرأة، والآية تحتمل المعنيين: تحتمل أن يرجع ذلك إلى الرجل جميعًا، فإن الترائب توجد في الرجل، وتوجد في المرأة، لكن إنما اشتهرت الترائب لدى المرأة؛ لكثرة ما يرِد ذلك في كلام العرب شعرًا، ونثرًا؛ لأن ذلك موضع الجِيد، أو القلادة منها، فيرد في الأشعار، وإلا فالرجل له ترائب أيضاً، وتحتمل الآية أن ذلك يرجع إلى الرجل، والمرأة.
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، رقم: (130)، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (313).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (314).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97]، رقم: (4480)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (311).
- التحرير والتنوير: (30/ 263).
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق (30/ 263 - 264).
- المصدر السابق (30/ 264).
- الطرق الحكمية (ص: 184).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (314).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97]، رقم: (4480)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (311).
- أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، رقم: (130)، ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (313).
- الطرق الحكمية (ص: 184).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (311).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (314).
- أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، رقم: (315).
- الطرق الحكمية (ص:184-185).
- المصدر السابق (ص:185).
- المصدر السابق.
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97]، رقم: (4480).
- الطرق الحكمية (ص:185).
- أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: (2645).
- الطرق الحكمية (ص:185-186).