إِنَّهُ أي: الله - تبارك وتعالى -، فالله هو الخالق، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ يعني: الذي خلقه، عَلَى رَجْعِهِ هذا الضمير يرجع إلى الإنسان، أي: على رجع الإنسان مرة ثانية، فهذا احتجاج على البعث، وقدرة الله على بعثه، فالذي خلقه من هذه النطفة، ثم جعله إنسانًا سويًّا قادر على إعادته ثانيًا، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يعني: البعث بعد الموت، والفناء، والاضمحلال، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، هو الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم، والسياق يدل عليه؛ لأن السياق إنما هو في بيان قدرة الله ، انظر ماذا قال في هذا السياق؟ قال: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ يعني: يوم القيامة، فإن هذا الظرف متعلق بما قبله، فهذا يوم القيامة بلا إشكال، مع أن بعض أهل العلم قال بخلاف ذلك، لكن الجمهور على هذا، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله - بهذه القرينة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وهو الذي رجحه ابن القيم أيضاً، مع أنه جاء عن مجاهد في قوله: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ يعني: هذا الماء، على رجع الماء، إلى أين؟ مجاهد يقول: في الإحليل، وهذا وإن كان يحتمله اللفظ - يرد الماء في الإحليل - لكنه بعيد؛ لأن الآية في قدرة الله على بعث هذا الإنسان، وعلى إحاطته به، وقد رد ابن القيم على هذا القول من أوجه كثيرة، يقول: ولم تجرِ العادة في القرآن على بيان القدرة في مثل هذا، وإنما يُحتج بنشأة الإنسان من نطفة، أو بخلقه من تراب على أن الله قادر على إعادته ثانيًا، أي: أن الذي خلق أولاً قادر على الإعادة، ولا يعجزه ذلك، وراجعوا كلام ابن القيم - رحمه الله - في رده على هذا من أوجه متنوعة، ومنها: السياق يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فهذا يدل على المرادـ وهو: أن ذلك يوم القيامة، وجاء عن عكرمة والضحاك: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ أي: الماء، لكن إلى أين؟ إلى الصلب، إلى موضعه: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ أي: إلى موضعه الذي خرج منه، لكن هذا أيضاً كالذي قبله.
"ولهذا قال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر، وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهورًا.
وقد ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر - ا -: أن رسول الله ﷺ قال: يُرفع لكل غادر لواء عند استه، يقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان[1]."
قوله - تبارك وتعالى - : يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ: هذا يوم القيامة، تبلى السرائر، والسرائر هي: ما يسر في القلوب من العقائد، والنيات، والمقاصد، والأعمال، كل ذلك يظهر، وكذلك الشرك، والرياء، والنفاق والتعلق بغير الله ، وما إلى ذلك، كل هذا يظهر، وتبلى السرائر، وبعضهم يقول: الأعمال، ونشر الصحف؛ لأنها سرائر، فتظهر يوم القيامة، وتكون بادية، فيفتضح من يفتضح، مع أنه قد يكون على حال أمام الناس في الدنيا مواتية، ولكن يوم القيامة تظهر المخبآت من أعمال الناس، وما كانوا يخفونه، فهذا القول أعم من الذي قبله، فقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ على الأول: أنه تظهر مخبآت النفوس، ومكنونات القلوب، والثاني: أن الجميع يظهر يوم القيامة، فلا يخفى من ذلك شيء، كل شيء يكون باديًا ظاهرًا، فيفتضح هذا الإنسان الغادر مثلاً، يجعل له هذا اللواء تشهيرًا، وتشنيعًا عليه، وفضيحة؛ ولهذا يقول ابن كثير هنا: "تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهوراً"، وظاهر كلام ابن كثير مع الحديث الذي ذكره: أن السرائر هي كل المكنونات، والأعمال، والمخبآت، والتي قد تخفى على الناس، سواء كانت مما يكنه في نفسه، وصدره، أو كانت من مزاولاته، وأعماله.
- أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر، رقم: (3186)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، رقم: (1735).