الأحد 03 / محرّم / 1447 - 29 / يونيو 2025
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلْأَوْتَادِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [الفجر:10]، قال العوفي عن ابن عباس - ا -: الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره، ويقال: كان فرعون يوتد أيديهم، وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها، وكذا قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد، وهكذا قال سعيد بن جبير، والحسن، والسدي."

هذه الأوتاد ما المراد بها؟ هنا ابن عباس بهذا الإسناد الضعيف يروى عنه: "الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره"، وبعضهم يقول: الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد، والوتد عمومًا معروف، فهو: الذي تثبت به الخيام، فهذا يقال له: وتد، والذين يطرق في الجدار من المسامير يقال له: وتد، كل هذا يقال له: وتد، والله وصف الجبال بأنها أوتاد، أو سماها بالأوتاد؛ لأنها تثبت الأرض؛ لئلا تميد، وتضطرب، وتتحرك، فهنا باعتبار الجنود إما لكثرة الخيام التي يشدونها بالأوتاد، وهذا قد لا يخلو من بعد - والله تعالى أعلم -، أو أن هؤلاء الجنود هم أوتاد يثبت بهم ملكه، فيكون هذا عند القائلين بالمجاز من الاستعمال المجازي، يعني: اعتبر هؤلاء الذين يثبت بهم الملك أنهم أوتاد كأوتاد الخيمة التي تثبتها.

والقول الآخر قال: "كان فرعون يوتد أيديهم، وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها"، يعني: يعذب الناس بهذه الطريقة، "قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد" والله أعلم، فهذا يحتمل، وابن جرير - رحمه الله - جوز أيضًا أن تكون هذه الأوتاد مما يلعب به، سواء كانت أوتادًا من حديد، أو أوتادًا من خشب، أو نحو ذلك، وإذا كان الله - تبارك وتعالى - سمى الجبال أوتادًا فلو قال قائل: إن هذه الأوتاد هي أمثال الجبال لكان هذا له وجه، لكني ما رأيت أحدًا من السلف قال هذا، بمعنى أنه ما قال أحد من السلف مثلاً: إنها هذه الأهرام التي كالجبال، وهي من أعجب ما تكون في بنائها، وضخامتها، ما رأيت أحدًا فسر هذا بهذا، ولا ذكره، والسبب في هذا - والله أعلم -: أن العلماء ما كانوا يقولون بأن الأهرام بناها الفراعنة، ما كانوا يقولون هذا، وتكلم العلماء عليها قديمًا، ووصفوها، وفُتح بعضها، ورأوا ما فيها من الموجودات، والتوابيت، كل هذا رأوه، وشاهدوه، وكتبوا عنه، ولكنهم لا يعرفون من أول من بناها، ويرجحون، ويغلبون الظن أنها كانت قبل الطوفان، يقولون: لو كانت بعد الطوفان لعرف من بناها، فيرجحون أنها قبل الطوفان، وبعضهم يقول: إن الذي بناها إدريس، باعتبار أن إدريس كان قبل نوح، هذا على قول بعض المؤرخين، وعلى القول الآخر: إنه بعد نوح  فالشاهد أن بعضهم يقول: إن إدريس هو الذي بناها، والعلم عند الله، فهذه الأمور لا نعلمها، لكن ما كانوا يقولون أبداً: إن الفراعنة هم الذين بنوها.

وبعضهم يقول: العماليق هم الذين بنوها، لكن كل هذا ليس عليه دليل، ولا مستند، ولا أعلم أن أحدًا قال: إن الفراعنة هم الذين بنوها، حتى جاءت الحملة الفرنسية، ومعها علماء آثار نحو مائة وستة وأربعين عالمًا من علماء الآثار، فنبشوا بعض هذه الأهرام التي كانت مطمورة بالرمال، وبعضها كانت الأهالي يأخذون منها الحجارة، وحاول بعض الخلفاء العباسيين هدمها، وما استطاعوا، وهي كانت بعيدة، ولم يكن أحد يلتفت إليها، كأنها جبال في الصحراء، فجاء الفرنسيون ونبشوا، وحفروا، واستخرجوا هذا الصنم أبا الهول، حفروه بعد أن كان مطمورًا في الرمال ومغطى، لا يظهر للناس، فالذين يقولون: لماذا لم يكسره الصحابة؟ نقول: لأنه كان مغطى بالرمال، فالفرنسيون حفروا وأخرجوه، وأخرجوا غيره، وقالوا للناس: هذه آثار فراعنة، وجاءوا بكتابات، وجاءوا بأشياء أخرى، وفتحوا عليهم باب الشر، وأرادوا ربط المصريين بما قبل الإسلام، وقالوا لهم: أنتم فراعنة، ما شأنكم بالإسلام؟ ارجعوا إلى فرعونيتكم، ودعوا الإسلام، حتى إن العداوة كانت شديدة بين الإنجليز، والفرنسيين، فلما احتل الإنجليز مصر بعد فرنسا لشدة عداوتهم لهم أزالوا كل ما يذكّر بالفرنسيين، كل شيء يذكّر بالفرنسيين أزالوه إلا شيئًا واحدًا: معهد الآثار الذي يقوم عليه علماء آثار من فرنسا، هو الوحيد الذي أبقوه، فهذا هدف مشترك بينهم، وهذا معروف في تاريخ مصر، ومن أحسن من تكلم عن تلك المرحلة الجبرتي في تاريخه: عجائب الآثار، فهو رجل منصف وعالم، وأبوه عالم، وشمولي في جميع العلوم، حتى العلوم المادية: الهندسة، والزراعة، والطب وما إلى ذلك، وأبوه يقال عنه: لا يوجد علم إلا تعلمه، ولا توجد آلة لتلك العلوم إلا وهي في بيته، هذا أبو الجبرتي، فالجبرتي ألف هذا الكتاب، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات، أشياء ينقلها عمن رآها، وأشياء شاهدها هو بنفسه.

ولم يقل أحد: إن هذه الأوتاد هي الأهرام مثلاً؛ لأنهم لا يعتقدون أن الذين بنوها هم الفراعنة، فهذه الأوتاد يحتمل أن تكون جنودًا كثيرين يثبت بهم ملكه، ويحتمل أنه يعذب بها الناس - والله أعلم -.