"فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:15-20].
قال - رحمه الله -: يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق؛ ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56]، وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، قال الله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر كما زعم لا في هذا، ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب، ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين: إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر."
قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ هذا في الإنسان، وكثير من أهل العلم يقولون: هذه صفة الكفار، وليست بصفة أهل الإيمان، وبعضهم يلمح كابن عطية، وكذلك ابن عاشور، يقول: وهذا قد يقع أيضاً من بعض ضعفاء الإيمان، فيحصل عندهم مثل هذا الوهن، والله - تبارك وتعالى - ذكر أوصاف الإنسان في القرآن من حيث هو، ما لم تتروض نفسه بالإيمان، فالإنسان غير المؤمن، أو ضعيف الإيمان قد تكون المعايير عنده ضعيفة، فإذا حصل له الابتلاء بالنعمة، وأعطاه الله ، يظن أن ذلك لحظوة، ومنزلة له عند الله، وإذا حصل له أضداد ذلك من ضيق في الرزق، أو بلاء، أو مرض، أو نحو ذلك ظن أن هذا لهوانه على ربه - تبارك وتعالى -، أو ينظر إلى الآخرين بهذا الاعتبار، ويقيس بهذه المقاييس، فالله ينكر هذا، ويقول: كَلَّا أي: ليس الأمر كذلك، فالعطاء والمنع لا يدل على محبة الله للعبد، ولا على سخطه، فقد يكون العبد في حال من الغنى، والعافية، وهو عدو لله، فهو يعطي الكافر إملاء له واستدراجًا، وكذلك قد يكون المؤمن في حال من البلاء، والمرض، والفقر، وليس ذلك لهوانه على ربه - تبارك وتعالى -، بل قد قال النبي ﷺ: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل[1]، فإذا كان في دين الرجل رقة خفف عنه، وهذا من رحمة الله فإذا نظرت إلى الناس في أحوالهم، وفي بلائهم تجد أنهم يتفاوتون هذا التفاوت، فالأنبياء يضاعف لهم، حتى في الأمراض العادية، كالحمى، ونحو ذلك، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ لما سئل عن هذا: إنك لتوعك؟ قال: نعم[2]، وذكر أنه يوعك كما يوعك الرجلان، وأنه يضاعف لهم في الجزاء، فمع عظم البلاء يكون الجزاء، حتى الشوكة يشاكها المؤمن يكفر بها من خطاياه[3]، فهذا بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يعني: من كان دونهم، أو من كان قريبًا منهم يكون بلاؤه عظيمًا شديدًا، فبعض الناس يتساءل يقول: أنا مثلاً من بين قراباتي، أنا من بين إخواني، امرأة تقول: أنا من بين أخواتي، وقريباتي، أنا الوحيدة المتدينة، والبلاء يتتابع عليّ، وينصب صبًّا، لا أكاد أخرج من بلاء حتى أدخل في بلاء آخر، لماذا وهؤلاء لا يصيبهم شيء؟ يقال: أنتِ ما عرفتِ المقياس الصحيح الذي قد قرره الله في مواضع من كتابه، والنبي ﷺ قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذه الآيات في هذه السورة تنكر على من ظن أن العطاء إنما هو لكرامة العبد على ربه - تبارك وتعالى -؛ ولذلك إذا نظرت مصداق هذا الحديث: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فإنك تنزل، وتتدرج حتى تصل إلى مراتب متدنية في البلاء، بمعنى: أن هذه الدنيا هي أصلاً دار ابتلاء، فالإنسان - كما سبق- خلق في كبد، فهو يكابد العيش كما ذكر السلف، ويكابد الدنيا، ويكابد ما فيها، فهذه طبيعتها، وهذا مما يبعث النفس ويروضها على الصبر، فهو يعرف طبيعة هذه الحياة، فلا يجزع، ولا ينكسر، ولا يضيق ذرعًا بذلك، إنما هي أمور يسوقها الله إلى العبد فيرفعه بذلك.
وإذا نزل الإنسان لكي ينظر في البلاء يجد أن البعض لربما يكون بلاؤه في أمور مختلفة، يعني: تجد امرأة تريد أن تنتحر، ما هي المشكلة؟ المشكلة أن عندها طفلا له سنتان أو ثلاث مزعج في نظرها، أزعجها وما عندها غير هذا الطفل، وملت من الحياة، وملت من العيش، ولا تريد البقاء مع زوجها، ولا تريد أن تبقى في الحياة كلها، بسبب هذا الطفل، يعني: الآن هذا الولد الذي هو نعمة عليها هو بلاؤها، وكم من امرأة ما تزوجت تتمنى أنها تتزوج، وكم سمعتُ من النساء - وما أدري من أين جئن بهذا - يقمن كل ليلة بسورة البقرة؛ اعتقادًا منهن أن هذا يجلب لهن زوجًا، باعتبار أنْ أخذها بركة، فهن كل ليلة يقمن، وعلى طول السنة، يقمن بسورة البقرة؛ لأنها تتمنى زوجًا، هذا حال التي ما تزوجت، فهي في بلاء، دائمًا تفكر في هذا الموضوع، يقوم معها، ويقعد، ويأكل ويشرب، والتي تزوجت قد ما تنجب، أو تتأخر سنوات، فتكون هذه مشكلة المشكلات، ومصيبة المصائب، ومن مستشفى إلى طبيبة إلى تحاليل إلى فحوصات، وإلى هنا، وهناك؛ لأنه ما عندها أولاد، فتبقى في قلق دائم، وهاجس مستمر، هذا بلاؤها الآن، يا سبحان الله! مع أن الأولاد زيادة، وليس عيبًا، فإبراهيم ﷺ لم يولد له إلا بعد الشيخوخة، وزكريا قال: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89]، فهذا ليس بعيب أي كون الإنسان لا يولد له، وليس بنقص، ومع ذلك تجد من الناس من تكون هذه عنده غاية البلاء، والمصاب، مع أنه بلاء يسير، بل يقال له: احمد الله أنت معافى في بدنك، وأرزاقك دارّة، ليس عندك مشاكل وأمراض، والأولاد زيادة، وما تدري ما حجز الله عنك، قد تكون تعاستك بسبب أولادك، أنا أعرف شخصًا كانت نهايته على يد ولده بساطور، قتله في حظيرة غنم عند الأبِّ، يذهب ويجلس فيها في الظهيرة، وولده هو الذي قتله بساطور، ضربه حتى مات، نهايته على يد هذا الولد - نسأل الله العافية - فالقضية ليست أن يأتيه ولد، فنحن نعرف أناساً عندهم أولاد، ولكنهم يتمنون هلاك هؤلاء الأولاد؛ لأنهم رأوا منهم الشيء الكثير من الشر، والفساد والإفساد، والتهديد بالقتل صباحاً، ومساءً، يأتي إلينا أناس أحيانًا يقول: ولده يهدده بالقتل صباحاً، ومساءً، ويطلب منه أموالا، لأن ولده مبتلى بالمخدرات، فهل وجود هذا الولد خير له أو عدمه؟ فتجد الذي لا يولد له في بلاء وكرب وشدة، والذي ولد له في كرب، انظر هذه ماذا تقول؟ تريد أن تنتحر لأجل طفل عمره سنتان، أو ثلاث، فهذه عندها طفل، وكم من واحدة تتمنى هذا الطفل، وتتمنى هذا الإزعاج في البيت ومن يردّ الصوت، تتمنى أن تسمع صوت طفل، ولكن ما حصل، فهذه بلاؤها في طفلها، تجد هذا كثيراً في النساء، عندها أطفال صغار ملئوا الدنيا عليها غمًّا، لماذا؟ قالت: مزعجون، واحدة أرسلت لي قبل يومين: أنا في كرب، وشدة ادع الله أن يفرج عني، ما هذا الكرب؟ عندها طفلان بالنسبة لها مزعجان، فهي في كرب، تطلب الفرج، فهذا ابتلاء بالنسبة إليها، والناس يتفاوتون في البلاء.
لقد رأيت مرة رجلاً يبكي كما يبكي الطفل، وهو رجل ذو هيئة، ورجل مرموق، ورجل معروف في ناحيته، يبكي كما يبكي الطفل ويشكو، فلما ذكر البنت ظننت أنه حصل لها مكروه، أي: أنه انتُهك عرضها أو شيء، فالبنت صغيرة في الابتدائي، فتبين أن المشكلة هي: أنها تدرس في مدرسة مع بنت الأستاذة، والأستاذة التي تدرس بنته مع بنتها في نفس المستوى زادت بنتها ربع درجة، فصارت بنت الأستاذة هي الأولى، وبنت هذا هي الثانية، فيتكلم بحرقة يقول: أنا ما أريد أن أطور الموضوع، وأذهب به إلى الجهات المختصة، والشكاوى، وكذا، فبماذا تشير عليّ؟ أنا لما قال هذا لي كأنه صب عليّ خزانًا من الماء البارد، أنا كنت أترقب، وأنتظر ماذا سيقول؟ ما الذي وقع للبنت من البلاء؟ وإذا الذي فيها زيادة ربع درجة، فصارت بنت تلك هي الأولى، وهذه هي الثانية، فيتكلم، وينعصر من الألم، ويبكي، ويمسح دموعه، والمسألة هي أولى، وثانية، وربع درجة، يا أخي، تكون الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، ما المشكلة؟ ما يدريك لعل ربع الدرجة هذه تدفع عنها من الشر الكثير، وما يدريك لعلها تدفع عنها حسدًا، وتدفع عنها شرورًا، وتدفع عنها كلام ناس، وتدفع عنها أذى، دعها تنزل مرتبة، وما يدريك أين العاقبة الحسنة، وأين الخير، لعل الله دفع عنها شرًّا كثيرًا بهذا، فهذا الرجل بلاؤه هذا، فهو يبكي.
هناك أشياء عجيبة يشاهدها الإنسان في الحياة، يعني: هناك ناس عيالهم لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، وهناك ناس أولادهم لا يصلحون للتعليم؛ لأن عندهم ضعفًا، وصعوبات في التعلم، وعندهم تخلف، وهناك ناس عندهم أولاد يدرسون لكن نتائجهم دائمًا رسوب في كل المواد، أو ما عنده دور ثانٍ - إن كان يوجد دور ثانٍ - وهذه ربع درجة بينها وبين الأولى، وصارت مصيبة بالنسبة إليه، فالإنسان يبتلى على قدر إيمانه، فإذا كان في الإيمان رقة خفف عنه، يعني: لا يأتيه بلاء، ومصائب على مستوى الأنبياء، والأمثل فالأمثل، لا، ولكن تأتيه أشياء بسيطة، وخفيفة هي بالنسبة إليه القيامة كلها، وهي بالنسبة للآخرين أمنية الأماني، فكثير يتمنى أنه ما نقص عليه من الدرجة الكاملة إلا ربع الدرجة هذه، فهي أمنية لدى آلاف الملايين، وهذا الذي لربما مصيبته، وبلاؤه، أو مصيبتها، وبلاؤها في طفل، أو طفلين هي أمنية لغيره، فهذه نعمة، وهذا الصوت أجمل تغريد لدى المرأة التي لم ترزق بالأولاد، لكن ما يعرف قدر النعمة إلا من فقدها.
إن هناك نِعمًا أسديت إلى أناس يراها من وقعت لهم أنها نقم، ومصائب، وبلايا، بينما يتمناها أكثر الخلق، يتمنونها، ويغبطونه، وينظرون إليه أنه منعم عليه، وأن الله فاض عليه بهذه النعم، ولكن العبد قد يضعف شكره لله ولا يتبصر بنعم الله، فيقع منه مثل هذا الضعف، والجزع، ونسأل الله أن يجعلنا، وإياكم من الشاكرين لنعمه، وألا يحولها عنا بذنوبنا، وأن يزيدنا، وإياكم من فضله، وأن يغني المسلمين من فضله، وألا يحوجهم لأحد من خلقه، ويصلح أحوالهم، ويجمعهم على الحق - والله المستعان -.
فهذه السورة تتحدث عن الجزاء في موضوعها الأصلي، فهذه المعايير من العطاء، والمنع، والغنى، والفقر إلى آخره، هذه ليست هي المعايير الحقيقية لقرب العبد من ربه، وأسوأ ما تسمع من سؤال أن يقول: لماذا أنا؟ لماذا يا رب؟ لماذا أعطيت فلانا؟ فلان ما يستحق، أعوذ بالله! هذا هو التسخط على القدر، هذا لا يقوله إلا من لا يعرف ربه - تبارك وتعالى - فالله عليم حكيم، وإذا عرف العبد أن ربه عليم حكيم رضي بتدبيره، وقال: تدبيره خير من تدبيري، لاسيما إذا استخار في أمر يقصده.
هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية جيد، في قوله: "قال الله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب.." إلى آخره، ومدار ذلك على الطاعة والمعصية، وحال العبد من الصلاح، والاستقامة، وبنحو هذا ذكر ابن جرير -رحمه الله -.
وقال: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16] أي: إذا أصابته الضراء ظن أن ذلك لهوانه على الله - تبارك وتعالى -، وهكذا إذا رأى الناسَ في حال من النعمة، أو حال من الضر فإنه يحكم بمقتضى ذلك على حالهم مع ربهم .
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم: (2398)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 230)، رقم: (992).
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، رقم: (5648)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، رقم: (2571).
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، رقم: (5640)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، رقم: (2572).
- أخرجه أبو داود، أول كتاب الأدب، باب في ضَمِّ اليتيم، رقم: (5150)، وهو في البخاري، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، رقم: (6005)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، رقم: (2983).